الأربعاء
2024/05/1
آخر تحديث
الأربعاء 1 مايو 2024

"فنون وعادات البيضان".. حياة سكان الصحراء الموريتانية

2 سبتمبر 2022 الساعة 09 و26 دقيقة
محمد الحافظ الغابد
طباعة

يتطرق كتاب "فنون وعادات البيضان" للرحالة الفرنسية أوديت دي بويغودو لحياة سكان الصحراء خصوصًا الجزء الموريتاني، ويأتي الكتاب في سياق الملاحظات الجغرافية والإثنولوجية التي سجلتها أوديت خلال رحلاتها المتعددة في موريتانيا ومنطقة الصحراء الكبرى، والتي وثقتها عبر التصوير والرسم. ويقع الكتاب في 477 صفحة، وهو من ترجمة وتقديم أحمد البشير ضماني ومن منشورات مركز الدراسات الصحراوية الرائد في نشر التراث الفكري والثقافي في المجال الصحراوي البيضاني.

أوديت دي بويغودو، الإثنوغرافية الفرنسية، ولدت سنة 1894 بسان نازيز في بريتاني (فرنسا) في 20 تموز/ يوليو 1894 وتوفيت بالرباط في 19 تموز/ يوليو 1991؛ فنانة موهوبة ومغامرة لا تكل، قطعت الصحراء الموريتانية، ابتداء من تشرين الثاني/ نوفمبر 1933، وحتى تشرين الأول/ أكتوبر 1934 على ظهر الجمل أو سيرًا على الأقدام. وتركت أوديت دي بويغودو بعد رحلاتها الاستكشافية والدراسية ببليوغرافيا استثنائية غنية بالوثائق والرسوم التوضيحية التي تجسد أصالة ثقافة السكان في الأراضي الموريتانية.

وعاشت أوديت السنوات الأخيرة من عمرها وحيدة شبه منسية، إلى أن اكتشفت مونيك فيرتي، المحافظة في المكتبة الوطنية الفرنسية، أعمالها أثناء رحلة لها إلى موريتانيا سنة 1985، فأثارت شغفها، والتقت بها إثر ذلك في الرباط، حيث نشأ بينهما رباط من الصداقة والثقة.

فصول الكتاب

الفصل الأول "البيضان وترابهم": تحدثت فيه عن الإطار الجغرافي الذي حدد نمط عيشهم وطباعهم والتذكير بأصولهم وبمصادر عاداتهم الاجتماعية والثقافية والفنية.

الفصل الثاني "الحياة المادية": السكن: (المخيم القرية الخص المسجد) واستعرضت نبذة عن المدن الرئيسية القديمة.

الفصل الثالث "الحياة الأسرية": تعرضت فيه لعادات الزواج والطفولة وجونب حياة الأسرة.

الفصل الرابع "الحياة الثقافية": واستعرضت فيه الجوانب المتعلقة بالتعليم.

الفصل الخامس "الصناعة التقليدية": واستعرضت فيه صناعات عُــدّة ركوب الإبل ورسومات لم يسبق نشرها.

وتركت المؤلفة عناوين ومؤلفات تشكل ببليوغرافيا نموذجية توثق حكايات سفرها ورحلاتها وأعمالها المرتبطة بتاريخ وثقافة البيضان، بالإضافة إلى عدد مهم من المقالات والشهادات وبعض الروايات والأعمال المستوحاة من تجربتها الصحراوية.

مضامين الرحلات

أواخر سنة 1933، شدّت الرحال من فرنسا في رحلة لموريتانيا، التي هدأت منذ سنوات قليلة واكتملت السيطرة الفرنسية فيها بشكل نهائي وكامل. وفي صحراء بكر بدأت تكتشف المجتمع الموريتاني، ومنذ تلك الحقبة وقعت أسيرة لعشق الرمال الذهبية والكثبان الرملية كما أعجبها المجتمع الموريتاني الذي تصدى لطبيعة قاسية وقهرها وطوعها ليعيش حياة جميلة في رحلة الشتاء والصيف في انتجاعه الدائم في صحراء واسعة مترامية، لقد بهرتها صور الجمال والإبداع في الصناعة التقليدية والدقة في الصناعة والزخرفة فقد نقلت إلينا في هذا الكتاب أشكالًا متنوعة لرسومات المعمار والأثاث وكل الأشكال التي شاهدتها في المنازل الحضرية بالخيم وتعلقت بالصناعة التقليدية والصناع المبهرين بفنهم المتحفي الجميل المستجيب لتحديات الحياة البدوية الأخاذة.

وإذا كانت الذاكرة الشنقيطية القوية قد نقلت إلينا تراث الأجداد مشافهة وحكاية فقد نقلت إلينا أوديت عبر رسوماتها شاعرية الإبداع الصناعي المبهر للصناع التقليدين وهم ينحتون أقتاب ورواحل وأواني الحياة اليومية للناس. انبهرت الفرنسية المبدعة بالجمال الذي فاجأها في عمق المجابات الموريتانية الكبرى في عمق الصحراء الشنقيطية وإنسانها المتكيف مع بيئة قاهرة ومخيفة.

ألهمت شاعرية المجتمع الموريتاني أوديت بويغويدو فنثرت ملامح المجال في المنحوتات والمنسوجات وأفرغتها في رسوماتها مع تحليل وتتبع تاريخي لملامح من التاريخ الاجتماعي، نادرًا ما توفرت عليها مادة مكتوبة وهذا ما يعطي كتابها قيمة كبيرة، فسجلت بريشتها الفنية ملامح حياة كانت تدرك أنها ستندثر بسرعة مع المتغيرات القادمة للبلاد مع دخول السكان العصر الجديد ووجدت في مواهبها في الرسم ودقة الملاحظة العلمية والفنية خير معين على ذلك.

"لم تقم أوديت بالرحلة وحدها، بل شاركتها ماريون سينون دون أي دعم أو تكليف رسمي. وقطعتا، خلال عام، أربعة آلاف وخمسمائة كيلومتر من المفازات الصحراوية. والتقتا علماء شنقيط وفقهاء ودان. وتنقلتا على ظهور الإبل، وحتى على الأقدام، وعاشتا مع الرُّحل في مخيماتهم كما لو أنهما طفلتان صحراويتان، تجولتا في تجمعات الصيادين ومدن القوافل وقصور الواحات وقرى الزنوج، وأجرتا بحوثًا أركيولوجية ونباتية وإثنولوجية" ‏(مقدمة المترجم. ص6).

شكلت الرَّحَّالتان، برأي مترجم الكتاب، بالنسبة للآلة الدعائية الاستعمارية، بما أنهما امرأتان تتنقلان بكل حرية وأمان في أرجاء الصحراء، دلالة على قوة فرنسا ومتانة الأسس التي فرضت بها التهدئة في الصحراء الموريتانية الشاسعة، أما بالنسبة للسكان المحليين، فكانتا مثار استغراب، وهما اللتان تترحلان مثل المحاربين وتمتطيان الإبل، لكنهما أبعد ما تكونان عن إعطاء الانطباع بكونهما غازيتين أو تنتميان إلى الغزاة، فقد أحبتا هذه الأرض التي يشعر فيها الإنسان بأنه" كائن إنساني يقف على قدمين" (مقدمة المترجم ص 6-7).

الحياة الأسرية

يتضمن الكتاب رصدًا حيًا لجوانب من حياة المجتمع الموريتاني قد تكون اختفت أو قلّت بفعل التحولات التي يعرفها المجتمع في العقود الأخيرة كما وثقت مؤلفة الكتاب ما شهدته وتابعته خلال الثلاثينيات والأربعينيات فيما يخص الزواج وإجراءاته كعقد القران وشروطه الاجتماعية ذات الخلفية الدينية والخطوبة والزفاف والطلاق وما يكتنف هذه الجوانب من طقوس وممارسات اجتماعية خلال هذه الحقبة.

والكتاب يعطي صورة مهمة عن جوانب تتعلق بالحمل والنفاس والطفولة والعقيقة –في أربعينيات القرن العشرين- ويبرز أوجه الاختلاف بين العادات البيضانية بدويها وحضريها كما يتطرق لجوانب التغذية في فترة الطفولة والعلاجات البدوية للأمراض، والثياب والحلي مبرزة رسومات لحلاقة الأطفال ما قبل المراهقة والتي تختلف في شكلها من حي بدوي أو قرية أو جهة لأخرى.

شغف بالصناعة التقليدية

في الفصل الثالث تتحدث الكاتبة عن عُدَّة رُكوب الإبل بالنسبة للرجل وهو الراحلة، وتقدم له وصفًا دقيقًا مفرقة بين الرحل البيضاني والطارقي (الرجل البيضاني أقل أناقة من الطارقية الخفيفة التي للطوارق إلا أنه أكثر منها متانة وراحة، إنه قطب كبار الرحل، صُمِّم لأجل الانتجاع الرعوي الطويل، والحج والقيام بالمبادلات التجارية العابرة للصحراء.. يٌسَافِرٌ الهَجَّانٌ في مقعده العريض المٌقَعَّرْ الواسع الفوهة، مثل قدح، بكل راحة لأيام وليال، في إمكان الراحلة المشدودة بإحكام إلى ظهر الجمل، أن تحمل مزيدًا من المتاع، تُعلَّقٌ حولها في إحكام وتوازن القِرَبْ وأكياس الزاد، والذخيرة والثياب، وكل ما هو ضروري للرحلة الطويلة. تصنع الرِّحَالُ من طرف "لَمْعَلْمِينْ"-أي الصناع التقليديين- فيما يتعلق بكل ما هو خشبي أو معدني. أما عمل الجلد – من دباغة وخياطة وصباغة وتزيين-فمن اختصاص نسائهم؛ ص 395).

ويتضمن الكتاب وصفًا دقيقًا لحياة السكان في الصحراء الموريتانية الشاسعة وأنماط حياتهم وبالتالي فهو مصدر مهم يوثق جوانب مهمة نادرًا ما عني الكتاب والمؤلفون بها خصوصًا في أربعينيات القرن العشرين حينما كانت الحياة البدوية على حالتها الأصلية لم يجرفها التحضر ولم تنسفها عوامل الانتقال للحياة العصرية، في عهد الاستقلال والدولة الوطنية في الستينيات والسبعينيات وتحولاتها العاصفة.

محمد الحافظ الغابد