الثلاثاء
2024/04/23
آخر تحديث
الثلاثاء 23 أبريل 2024

‏‎ محمد محمود ولد بكار ‏يكتب: البادية

11 سبتمبر 2022 الساعة 18 و26 دقيقة
‏‎ محمد محمود ولد بكار ‏يكتب: البادية
‏‎ محمد محمود ولد بكار ‏
طباعة

‏‎‏‎كان يوما خريفيا، وكانت عقارب الساعة تتصلب عند الواحدة بعد الزوال وكأنها تلاحق موعدا مهما وهو في الحقيقة الموعد الذي تلقي فيه الشمس بكلكلها على الأرض تنفث أشعتها الحارقة في لحظة غضب وكأنها ترفع عصا غليظة في وجه الرياح النسيمية وقد سكنت كل المخلوقات عن الحركة في وجوم تام فرض عليها بقوة وفي انصياع حزين ينم عن ضعفها أمام قوة لفحات الشمس، وترى العشب خلال تلك الساعة هامدا كأنما تخنقه الشمس بساعدين قوين لتنتزع روحه دون حراك، وتلحظ الطبيعة وهي تتلقى قيظ الشمس بانكسار وقد تحول مرحها لحالة صمت رهيبة وكأنما تعلن الحداد على النسيم الخريفي الذي يحمل شآبيب الرحمة ولطائف الموسم . بعد ساعة تبدأ الشمس تراجع نفسها وكأن شيئا يربت على كتفها ويهدهدها لتكتم غيظها وتلملم لظاها فاسحة الطريق لمخلوق آخر هادئ لطيف فيعود بهدوء يتلتقط أنفاسه وكأنه كان في صراع قوي مع قوة أعظم منه ،وتستعيد الطبيعة فرحتها بانفكاك غضب الشمس ووصول رسل النسيم وتبدأ في حركاتها المتناسقة المعهودة ومرحها وكأن كل شيء منها ينظر كنه الآخر . وتعود حركة أوراق الأشجار المهذارة للتراقص بفعل تمايل الأغصان الرتيب، وتبدأ المواشي والدواب في العودة للمرعى وكأن الحياة وجدت الأوامر للعودة مجددا للطبيعة.
إنها عادة للشمس في مثل هذه الأيام التي يستمر فيها هطول الأمطار وتواصل فيها السماء زمجرتها من حين لآخر ويختلط فيها اخضرارها الصافي كما لو أنها مياه المحيط عند القيلولة هي التي تظلنا فوق السحب الكثيفة التي تحاول عن طريق تخلخلها من مكان لآخر أن تحجب ذلك اللون البهيج لكنها ما تلبث أن تبدأ بالرحيل من مكانها في اتجاهات مختلفة وتارة ترتفع إلى أعلى، ورغم أنها غالبا ما تكون حبلى إلا أن ذلك لا يبطئ من سيرها حينما ما يؤذن لها بالمغادرة، تراها وكأنها تدوس على فرامل السرعة لتصل في المكان المحدد و الوقت المحدد لها تماما ، إنها أمور لا يمكن أن تسير بهذه الدقة من تلقاء نفسها. من الواضح أنها تتلقى أوامر لا يمكنها مخالفتها، لكن يبقى السؤال المطروح بأي لغة تتلقى بها هذه المخلوقات تلك الأوامر؟
‏‎يريد البشر، الذي يسعى لتفسير كل الظواهر ومنح نتائج تفسيراته تلك صفة العلمية، ومع ذلك كثيرا ما يبدل معطياته وقواعده تلك بظهور اكتشافات ونتائج أبحاث جديدة ، إعطاء تسمية لهذه اللغة التي تتحرك بواسطتها هذه المخلوقات، اسم " الفيزياء" ومع ذلك مات ثاني أكبر عالم فيزيائي في العالم ستيفن هوكينج دون أن يعطي تفسيرا لمصدر القوة أو الحركة للأشياء في الكون. وهكذا يبقى التفسير العلمي غير كامل . تتراءى لك من بعيد في لحظة السكون تلك أشياء تتراقص بفعل ذلك الحر الذي يجعل من السراب أمرا واقعا وهو يحول أشياء هامدة إلى متحركة ويعطي للأمور مدلولات غير واقعية ويرسم تموجات في المسافة التي تفصلك عن الأفق ويزيد وينقص من أحجام الأشياء ، يقض مضجعك العرق الذي يتصبب منك مبللا ملابسك وفي كل وقت تتناهى لمسمعك تأوهات من كدر تلك اللحظة . اضجع تحت الخيمة على سرير حديدي له أربعة أرجل تتحرك بواسطة عجلات صغيرة عندما تريد أن تحركه على أرضية صلبة فهو ثقيل لأن تنقله كل لحظة من مكان لآخر، يمكن رفعه عند منطقة الرأس إذا أردت مسندة للجلوس بحيث تبقى ممددا دون أن تتحول أقدامك إلى الأرض ، كما أنه يمكنك التحكم في درجة رفع المسندة بالطريقة التي تناسبك عند الاستلقاء للنوم .وتحت ظل الخيمة الوارف وبالمناسبة ظل مضيفنا يشرح لنا مزاياها وهي تقينا وهدة ذلك اليوم بظلها الجامد بفعل ذلك الحر أن خيمتنا تلك تمت خياطتها له بعناية فائقة فقد ذكرت له المرأة التي أشرفت عليها أنها مكونة من سبع طبقات من القماش الناعم. وقد فسر ذلك صعوبة بنائها بركيزة واحدة، وهي عادة درج عليها الناس عندما أقلعوا عن السكن الدائم تحت الخيام خاصة أن الناس اليوم تعودوا على بناء الخيام بركيزة واحدة، والحقيقة أنها كانت ثقيلة أكثر من نوعها من الخيام .
‏‎ قبل هذا وبالنسبة لأغلب البلاد كانت ثقافة بناء الخيام واحدة باستثناء منطقة الشمال أو الساحل وكانت الخيام تسند على ركيزتين في الوسط تلتقيان عند المنتصف في نقطة مركزية تسمى الحمَّار؟ ويتم لف الركيزتين عند الرأس بقماش: أولا لتثبيتهما وحشر مجهودهما في تلك النقطة، ثانيا لحماية الخيمة من أن تمزقها رؤوس الركائز الناتئة التي يتم إسناد كل واحدة منها على الأخرى حتى يمكن ربطهما في مكان واحد، بينما تنتهي كل ركيزة إلى قاعدة كبيرة كأنما تجلس في قدح خشبي لم تتم تهيئته للشرب. وعادة ما تكون هذه الركائز من شجر طويل في مناطق كثيرة المطر مثل شجر "جَيُوَ" أو :دًمٌبَ" أما بالنسبة لمنطقة الساحل فكثيرا ما يعتبرون الخيام مثل البيوت لسببين الأول مرتبط بالمناخ حيث أن منطقتهم في الغالب جرداء وموسم الرياح فيها مضاعف أو مستمر على مدى السنة، والثانية أنهم أقل رحيلا لأن أغلب مواشيهم من الإبل فهي من جهة تتحمل التصحر والعطش إضافة إلى أن رفقتها عادة من الرجال ، وتمميز خيامهم بأن لها اثنا عشر إلى ست عشر وتدا تحيط بالخيمة التي لها اسم مختلف أيضا، هل هو مغربي؟ : "كيطون" بقمقمة الكاف يكون في الغالب سطحه منبسطا، بينما تربط الخيام بواسطة ثمانية أوتاد: في الجانب الأيمن أربعة وفي الجانب الأيسر أربعة. في العادة يعتمد بناء الخيام على جهة الشمس وبالتالي دائما يكون الدخول والخروج من الغرب وتكون دائما شامخة بأعلى طول وقوة الركائز ،بينما يعتمد تحديد مدخل خيام الشمال على جهة الرياح ولذلك يوجهون خيامهم نحو الجنوب بدل من بقية المناطق التي توجهها في الغالب نحو الغرب . واجهة خيمتنا السفلية مزركشة بألوان زاهية يمكنك ملاحظة جمال تلك الفسيفساء عندما تكون مستلقيا على ظهرك وتنظر للأعلى. الألوان ليست من صناعة اليد بل هي من قماش مصنوع في الخارج لكنهم يختارونه بطريقة خاصة لترصيع الخيمة. عند نقطة الارتكاز التي هي الحمَّار تلاحظ حبكا خاص من خياطة باليد وعادة بأسلاك غليظة تتم خياطتها بواسطة إبرة غليظة تدعى محليا "المُخيٍط".
في السابق ظلت هذه صناعة بذاتها مازالت تحتفظ ببعض الألق رغم التغيير الكبير في النمط والأشكال، في الماضي كانت الخيام من الوبر وغالبا ما تكون سوداء تسمى خيام الوبر ومن الصوف الخشن وتكون بيضاء وتسمي خيام "اجيف" وتكون عادة بين عشرة أمتار طول في ثمانية عرض أو ثمانية في سته وتتكون فقط من طبقتين. اليوم أصبحت من القماش وكثيرا ما يكون مستعملا بالنسبة للخيام التي تباع في السوق .
تحت خيمتنا تجلس جماعة غير متجانسة تماما وأهمها لفتا للانتباه رعاة قدموا عند القيلولة ودخلوا دون إذن من أحد بعدما ألقوا التحية مشفوعة بسلام لا يكاد ينتهي وهو في الغالب تكرار نفس المفردات ، هؤلاء لهم طريقتهم يأتون ويسلمون ويجلسون عند نهاية الفراش وتارة على الأرض، لا علاقة للأمر باللباقة بل بالتعود . يملكون ساحرية عجيبة لأنهم يعطونك بكل عفوية كل ما يملكون من أخبار ليأخذوا من عندك كل مكنهم فضولهم من الحصول عليه ليصبوه لأول من يصادفوه بلاثمن . الثمن الوحيد هو أن تكون مستعدا للتبادل. إنهم يجدون متعة كبيرة في مثل هذا الحديث ،كانا يحملان عصيا رقيقة بألوان مختلفة وهي عبارةعن أنابيب بداخلها مادة لينة تحشوها تميل لأن تكون نحاسية تعطي لهذه الدبوس قوة ولباقة عجيبة إنها تلسع عند الضرب. سألتهم من أين حصلوا عليها، فقالوا أنهم اشتروها من قرى ريفية لكنها قادمة من ازويرات وأن شركة اسنيم تستخدمها وعند الانتهاء منها تقطعها الناس وتبيع الواحدة بألفي أوقية. لم يفسروا طريقة استعمال اسنيم لها كما لم أجده أنا بنفسي، ليس ذلك شغلهم كلما يهمهم هو كيف يمكن الحصول عليها وهنا ينتهي فضولهم . سألتهم من أين جاؤوا قالوا إنهم كانوا في" العطف" وهي منطقة في غورغل وهي منطقة خصبة شاسعة تمثل آخر منطقة في البلد تحافظ على المرعى،قالوا إنها هذه السنة خصبة بصفة استثنائية لكنها منزوعة البركة وهو مقابل تعبير تقليدي يقال له "موخم".حدثونا عن وجهتهم وتناولوا الطعام ليعودوا أدراجهم قبل نهاية القيلولة تماما. لم يتململوا من ذلك الحر ولم ينزعجوا من العرق وكانوا في حالة نشوة غريبة ربما لأنهم تركوا فصل الصيف خلفهم وهو فصل المشقة الكاملة بالنسبة لهم . مقابل هذه المعلومات المشاعة يريدون الدخول إلى خصوصياتنا من فرط الأسئلة، هي في الحقيقة لا تهمهم فالذي يهمهم الحصول على أخبار جديدة يتسلون بها مع أول من يصادفهم كما أسلفنا .
‏‎كان في الطرف الثاني من الخيمة شاب يداعب كؤوس الشاي ويتفانى في تكوين رغوة يتوج بها الشاي .ورغم أني أملك ذوقا مختلفا للشاي فأنا أحبه باردا من دون رغوة ومن دون سكر ومن دون نعناع ،وهو أمر أخالف فيه الذائقة العامة التي تعتبره تسلية بنكهة النعناع وبالطريقة الذائعة.
يكاد الهاتف يفسد كل شيء خاصة إذاكان مربوطا بالانترنت وكانت الشبكة متوفرة حينها يفسد كل شيء ولن يجد أحد طعما للحياة الطبيعية .
في المساء يأخذ الناس في التحرك: من يذهب للرياضة مثل حالتنا بعد يوم كامل من الأكل وشرب اللبن والحليب ، إنها عادة أهل البادية أن يحولوا هذه الراحة التي هي العيش مع الطبيعة إلى مناسبة للبذخ في حين لا يوجد سوى اللبن واللحم والأرز أو الكسكس وكلها مواد ثقيلة على المعدة وصعبة الهضم . بينما يتوجه أصحاب الحيوان إلى قطعانهم لتفقدها وربط صغارها ويتوجه العمال والنساء لغسل الأواني وإعادة ترتيب الفراش ونصب الخيام بطريقة مناسبة لليل حسب المناخ من ترقب للسحاب أو الرياح أو الهدوء لكل من ذلك بناء أو تهيئة خاصة به. ففي حالة الرياح والسحاب يتم خفض الارتفاع ويتم شدها بقوة إلى الأوتاد أما في حالة الهدوء فيتم جمع أطرافها للوسط حتى يبقى ظلها بقدر النصف بسبب تقليص الأطراف بضمها للوسط .
عندما تنسحب الشمس تتسلل خببا مودعة الأرض إلى الخلود إلى مكان آخر . إنها في الحقيقة لا تنسحب تلقائيا ولا دفعة واحدة بل تترك خلفها أشعة حمراء تلون السماء في تلك الأثناء تختلط الأصوات ويضج الأفق بأصوات مختلفة الحيوانات بأصنافها والبشر من مسافات مختلفة وبأصوات تعبر عن أغراض مختلفة وتبدأ الناس تتحضر لصلاة المغرب الصلاة الأولى هي التي يثبت خلالها قدوم أفول الشهور ويرخي الليل سدوله ليبدأ الإنسان نمطا ثانيا من الحياة له قواعده المختلفة التي أهمها الابتعاد عن الضوء وعدم إشعاله لأنك ستتحول إلى فريسة لحشرات مزعجة من أحجام وألوان مختلفة تطأ منك كل مكان بكامل الإزعاج .
ومع ذلك يبقى فصل الخريف هو واسطة عقد فصول السنة عندنا ، فعندما يكون مطيرا ومعشبا يكون فصل الشتاء باردا ويكثر فيه اللبن واللحم ويكون فصل الصيف أقل حرا وأقل جدبا وتصله الدواب في قوة وصحة، أما إذا كان عكس ذلك فإن كل الفصول تكون سيئة ومتعبة للدواب والبشر . وقد كانت هذه السنة استثنائية بالنسبة للبلد.
‏‎ محمد محمود ولد بكار ‏