الجمعة
2024/04/26
آخر تحديث
الجمعة 26 أبريل 2024

لمحات عن مكانة مدينة تيشيت التاريخية والعلمية في بلاد شنقيط

21 يناير 2023 الساعة 16 و47 دقيقة
لمحات عن مكانة مدينة تيشيت التاريخية والعلمية في بلاد شنقيط
الحسين بن محنض
طباعة

أظهرت بعض آثار ما قبل التاريخ أن منطقة تيشيت شهدت نوعا من الثقافة العطرية خلال الفترة العطرية (90 ألف- 20 ألف قبل الآن) التي انتهت قبل 20 ألف سنة أو دون ذلك بقليل عند بداية القحط الأخير في البليستوسين. وهو القحط الذي كان من الشدة في الصحراء بحيث أخلاها تماما من البشر، وقد يكون في ذلك تفسير لعدم وصول الثقافة العطرية للساحل الإفريقي.
أما أكثر ثقافة معروفة لتيشيت فهي تلك التي نشأت قبل 4 آلاف إلى 3 آلاف سنة من الآن، ومثلت نموذجا للتطور الذي حصل في العصر الحجري الجديد، حيث تميزت هذه الثقافة في تلك الفترة بتنظيم التجمع السكاني في المنطقة الصحراوية الساحلية، ولأول مرة، في أزيد من 400 قرية يضم بعضها مئات المنازل، كما هو حال دخلت العتروس التي كانت تضم أزيد من 600 منزل. وتحيط بمنازل كل قرية منها جدران عالية من الحجارة، وتشمل أكواخا ومخازن للحبوب، وحظائر للماشية. وتتميز هذه القرى بعمران واضح يتضمن الشوارع والساحات والأسوار الدفاعية. وفي إحدى هذه القرى اكتشف ممر محصن يتصل بالسهل ويؤدي إلى بئر، يشبه منشأة أقيمت في ودان ألف وخمسمائة سنة قبل الآن. وهذا النظام يوحي بوجود تنظيم سياسي ما، ربما كان يرقى إلى مستوى إمارة أو مملكة بدائية.
ويعتقد أن ثقافة تيشيت هذه كانت أرقى ثقافة شهدتها بلاد شنقيط من حيث التنظيم السياسي، منذ وجد بها الإنسان، حتى ظهور مملكة آوكار (حوالي سنة 300 ميلادية) التي انبثقت عنها مملكتا أودغست وغانه، فقد كانت ثقافة تيشيت تفضل كثيرا ثقافة بوحديدة التي اشتهرت بعد ذلك بعدانة نحاس أكجوجت، وثقافة تن محم حول انواكشوط التي اشتهرت بالتنمية والصيد، والثقافات الأخرى التي ظهرت في كل من تگانت وآدرار وغيرهما، وكانت المجموعات البشرية لثقافة تيشيت تقدر بعشرات الآلاف من السكان، وهي التي مثلت قوام هذا التنظيم الذي امتد على طرفي الجرف المطل على الحوض، بين تگانت والنعمه. ويعتقد أن هذه المجموعات قدمت إلى تيشيت من الشمال تحت وطأة القحط الذي بدأ قبيل 4 آلاف سنة من الآن، قبل أن تنحدر منها أفواج كثيرة بعد تراجع هذه الثقافة على إثر قحط جديد قبل 2000 سنة من الآن باتجاه الساحل الأطلسي (بوبه بن محمد نافع وروبير فيرني، الأركيولوجيا الموريتانية في متحف انواكشوط).
وبعد وصول الإسلام إلى هذه البلاد أدى تراجع سلطان الفهريين في المغرب الذي بدأ بقيام دولة عبد الرحمن بن حبيب الفهري سنة 127هـ/745م، وانهار بعد مقتل إلياس بن حبيب الفهري سنة 146هـ/ 764م إلى تمزق منطقة شمال إفريقيا تمزقا شجع على قيام العديد من الدويلات الإسلامية بها، وقاد ذلك إلى قيام دولة بني مدرار الخارجية الصفرية التي اتخذت من سجلماسة سنة 140هـ/ 57-758م عاصمة لها. وزاد قيام هذه الدولة الجديدة من أهمية مدينة أودغست التي سرعان ما أضحت الرابط التجاري الرئيس بين سجلماسة في الشمال وبلاد السودان الجنوبية التي يجلب منها الذهب عبر تيشيت.
ودفع هذا الدور الجديد لأودغست الملثمين (لمتونه ومسوفه وكداله) المسيطرين على شمال وغرب صحراء شنقيط إلى التفكير في احتلال مدينة أودغست واتخاذها عاصمة لهم.
وكانت أودغست بعدما احتلها الملثمون تعرف ببلاد انبُته (كتبت خطأ بلاد انبيه في المراجع الوسيطة)، ويقصد بها بلاد الأنباط، والأنباط هم فروع الملك والزعامة في صنهاجة. وقد لعبت مدينة أودغست منذ قيامها –إذ أن أودغست تسمية لاحقة لها- دور محطة وسيطة بين تجار الامبراطورية الرومانية الذين كانوا يفدون إلى الصحراء قادمين من الشمال بحثا عن جملة من البضائع أهمها الذهب، وبين تجار السودان الراغبين في اقتناء المنتوجات الرومانية، كل ذلك عن طريق تيشيت التي كانت تقع في موقع مناسب جعلها تمثل ملتقى لطرق عدد من مسالك القوافل الصحراوية.
وساعد الجمل قبائل الملثمين على تذليل الصحراء الشنقيطية التي سرعان ما أصبحوا سادتها، وتقاسموا أهم ثرواتها وهي الملح، كما تقاسموا إقليمها وخفارة القوافل التي تخترقها، فكانت جهة المحيط الأطلسي غربا لگدالة، حيث مملحة آوليل، وكانت جهة الوسط للمتونة حيث مملحة ودان (مملحة الجل)، بينما كانت جهة الشرق لمسوفة حيث مملحة تغازه (=تاتنتال) التي كان ملحها يجلب إلى ولاته، وإن كانت لمتونة ما لبثت أن تخلت بعدما تمكنت من احتلال أودغست لانشغالها بخفارة تجارة ذهب السودان عن مملحة وادن لصالح شقيقتها مسوفه التي أضحت سيدة تيشيت كذلك بصفتها ملتقى لطرق تجارية عديدة. ونظرا لأهمية الملح الذي يكاد ينافس الذهب في تجارة الصحراء، فقد غدت هذه القبائل الصنهاجية الثلاث من أثرى وأعظم قبائل صنهاجة، وتوسعت مراكزها التجارية لتسويق الملح (آوليل، ودان، تيشيت، ولاته) حتى أصبحت مدنا عريقة باستثناء آوليل التي كانت منطقة شاطئية غير صالحة للتمدن. وكان لكل مركز ملح من هذه المراكز مسالكه التجارية التي تؤدي إليه، وقوافل التجار التي تتزود منه، والقبيلة الصنهاجية التي ترعاه.
وترجع تسميات آوليل وودان وتيشيت وولاته إلى معنى واحد، فودان –كما قدمنا في "بحوث سابقة"- تفصيح لكلمة وجان التي أصلها أولان، كما أشار إليه العلامة الأخباري الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي المختار الكنتي في كتابه "الرسالة الغلاوية حيث يقول ": «ودان كلمة صنهاجية أصلها "أولان"»، واللام التي ذكر الشيخ سيدي محمد أنها تمثل أصل دال ودان، ترجع في صوتيات اللسان الصنهاجي إلى جيم معقودة مشوبة بالشين، حيث كثيرا ما تتعاقب مع هذه الجيم، فالفقيه مثلا تتحول إلى أشفغ في الصنهاجية، وملكة الوالو التي تدعي لينگار كان الصنهاجيون يسمونها ابجنگار، كما هو في شيم الزوايا للعلامة المؤرخ محمد اليدالي، وهكذا. وقد ساق العلامة الأديب امحمد ابن أحمد يوره في كتابه في تاريخ الآبار عدة أمثلة على ذلك منها: "ترتلاس" التي قال عن أصلها إنه "ترتج أسن"، و"آگويليل" التي قال إن أصلها "أگوجج"، و"انويلوط" قال إن أصله "أنوجظ"، و"تنيافيل" قال إن أصله "تنيفأج"، و"آگلال" قال إن أصله "آگجج"، و"تنياشل" قال إن أصله "تنياشج". ومثل هذه الكلمات أولان التي أصلها أوجان (=ودان).
ويذكر الشيخ سيدي محمد الكنتي في الرسالة الغلاوية أن «معنى "أولان" (=ودان): ذو الملاحس أي الذي يأوي إليه الوحش من سباخ النطرون»، وهو الملح المعدني الذي كان ودان يمثل سوقا له، فمعنى كلمة ودان: "أرض الملح".
ومثل ودان (=أوجان) "آوليل"، فأصل كلمة آوليل "أوججان" (جمع كلمة "أوجان" =ودان) أي أراضي الملح. ومثل ذلك ولاته التي هي تفصيح لكلمة "إيولاتن"، وأصلها "إيوجاتن" ومعناها صاحبة الملح، أي أرض الملح، فالمناطق الثلاث تحمل ذات المدلول، أما تيشيت فتحمل نفس المدلول بصيغة أخرى، فأصل تيشيت "ثيسنت" ومعنى ثيسنت الملح أيضا، وقد حورها الاستعمال إلى تيشيت بسبب تعاقب السين والشين بين بعض اللهجات الصنهاجية، فيقال شِنًا ويقال سِنًا بالسين ومعناها اثنان، ويقال شمش ويقال سمس ومعناها خمسة، وهكذا، ولذلك ترددت المصادر الوسيطة بين كتابتها بالشين والسين، فوردت في بعض الوثائق المغربية بالسين، وكتبها مارمول بالسين أيضا، قبل أن تشتهر بالشين "ثيشنت" ثم تيشيت إبان العهد الحساني بعد حذف نونها لاستثقالها في النطق. وقد اتفقت كل مدن الملح هذه على الاشتراك في هذه التسمية لأن كلا منها كانت تمثل مركزا تجاريا شديد الأهمية لمادة الملح الثمينة التي كانت تنافس الذهب في تلك العصور.
واتخذ الملثمون من أودغست التي احتلوها بعيد سنة 157هـ (773م) بقليل، عاصمة لملكهم الضخم الذي وطده لهم ملكهم العظيم تيولوتان بن تيكلان الذي ملك الصحراء بأسرها، وقيل عنه إنه كان يركب في مائة ألف نجيب، وإن مساحة دولته بلغت مسيرة ثلاثة أشهر في مثلها. وبلغت مدة حكم تيولوتان 65 سنة وتوفي سنة 222هـ (837م) عن عمر يناهز الثمانين.
ونظرا للازدهار الكبير لكل من تيشيت وأودغست فقد ظلتا خلال فترة طويلة من هذا العهد موضع تنافس وصراع بين قبائل الملثمين من جهة وقبائل كنكاره السوننكية التي تغلبت عليها بعد انهيار مملكة أودغست في صدر القرن الرابع الهجري.
ولما قامت دولة المرابطين في منتصف القرن الهجري الخامس تفرقت سرايا وبعوث الأمير المرابطي أبو بكر بن عمر في المنطقة ففتحت بلاد تيشيت وما حولها شرقا وغربا ويمينا وشمالا، حيث تذكر بعض الروايات أن الإمام عبد الرحمن بن الغيث المعروف بعبد الرحمن الركاز جد قبيلة تركز (ابن انبوجه، فتح الرب الغفور، وقال إن قبره قرب الديار وإنه مشهور يزار على عهده).
غير أن حروب المرابطين وفتوحاتهم في بلاد السودان والانهيار السريع لدولتهم الصحراوية وإجهاز الموحدين عليهم قطع السابلة وقوض المسالك التجارية وأفرغ الحواضر الصحراوية من جل سكانها من جديد.
واعتبارا من عام 534هـ/ 1139م بدأت أفواج مختلفة من الصنهاجيين المرابطين الفارين في وجه الحركة الموحدية التي قادت إلى سقوط دولة المرابطين بالمغرب رحلة نزوح متفاوت لعدد من المحلات والطوائف المرابطية التي كانت بالمغرب والأندلس إلى بلاد شنقيط، وجاء في إطار هذا النزوح بعض أعيان الدولة المرابطية من الفقهاء من تلامذة القاضي عياض، بعدما كرس الموحدون تفوقهم الحربي على المرابطين، واستولوا على مجموعة واسعة من أقاليم دولة المرابطين بالمغرب، إبان حملة عبد المومن الموحدي الأولى (534هـ/ 541هـ- 1139م/ 1146م) التي مهدت للقضاء النهائي على الدولة المرابطية وسقوط مراكش في شوال 541هـ (مارس 1147م). وكان على رأس النازحين طائفة من أشياع الدولة المرابطية إلى بلاد شنقيط، على رأسها الشريف عبد المؤمن بن صالح بن الإمام عبد العالي بن جعفر بن إسحاق بن يحيى بن مالك بن يوسف بن القاسم بن عبد الله بن إدريس، أقدم شريف محفوظ نسبه، معروف ضريحه في البلاد، والحاج عثمان بن محمد اللبان الخزرجي الأنصاري اللذين كانا يقيمان بأغمات، وكانا من تلامذة القاضي عياض أبرز الفقهاء المناصرين للمرابطين ضد الموحدين فبنى الحاج عثمان سنة (536هـ/ 1142م) مع بقية الحجاج الذين تشكلت منهم قبيلة إيدوالحاج ودان التي كانت حينها مجرد محطة صغيرة تتناثر حولها تجمعات مسوفية مختلفة تقوم باستخراج الملح من سبخة الجل الموجودة بالمنطقة، بينما بنى الشريف عبد المؤمن تيشيت في موقعها الحالي غير بعيد من الموقع القديم وانتقل إليها، وكان موضعها أكما يوجد بشماله على فرسخ منه (5.54كلم) جبل مرتفع، كما يوجد على أربعة أميال (7,36كلم) منه عن يمينه معدن ملح كبير، وتوجد عن جهاته الأربع معادن الحجارة والطين، وبه مياه كثيرة يصلح بها النخل وغيره فبناها وفق الرواية التاريخية في نفس العام، وقيل في عام 544هـ/ 1149م (ابن حامدن، حياة موريتانيا، الجزء السياسي).
وكان جمع من مرابطي مسوفة الفارين من حملة الموحدين الأولى (534هـ/ 541هـ- 1139م/ 1146م) قد نزلوا قبل الشريف عبد المؤمن إلى جوار تيشيت، على بعد فرسخ (5.54كلم) منها جنوب المدينة الحالية، فبنوا الأخصاص وأقاموا وانقطعوا للعبادة وزهدوا في الدنيا ظنا منهم –كما أشار إليه الشيخ سيدي محمد الخليفة في الرسالة القلاوية، وابن أحمدو الصغير في إنارة المبهم- أن هذه الفتن المتصلة بهزيمة الدولة المرابطية العادلة، دليل على قرب الآخرة، فندبهم الشريف عبد المومن إلى البناء معه فلم يساعدوه قائلين له إنه لم يبق من الدنيا ما يستحق أن تشيد لأجله القرى، فبنى بعدما أحضر أدوات وبنائين المسجد، ودارا لنفسه قرب المسجد، فكانت هذه بداية إعمار جديد لكل من تيشيت وودان على أسس أراد لها هذان العالمان اللذان لم تنقطع الصلة بينهما رغم تباعد المدينتين أن تكون ربانية قائمة على الخطط الدينية من إمامة وقضاء وفتوى وتعليم.
وهكذا آتى هذا الإعمار الديني أكله بسرعة حيث ما لبثت هاتان المدينتان أن أصبحتا مركز إشعاع علمي وثقافي بفضل هذين المعلمين ومن شاركهما في نهجهما الديني والعلمي وذرياتهم. وما إحكام الموحدين لسلطتهم على المغرب وعودة التجارة إلى سابق عهدها أصبحت تيشيت أهم مركز تجاري يتم فيه تخزين وإعادة تحميل ملح سبخة الجل المتجه إلى بلاد السودان عبر ولاته وأودغست وزارا، كما كانت تتوفر على سبختها الخاصة بها المعروفة بآمرسال. وانضم إلى الشريف عبد المؤمن لما أكمل بناء تيشيت، وجعلها على غرار ما فعل أهل ودان منارة علم وتعليم وحاضرة إعمار وتجارة، أهل الأخصاص من مسوفة الذين كانوا بجواره. ثم التحق بالشريف عبد المومن زميله في التلمذة على القاضي عياض مؤسس ودان الحاج عثمان الأنصاري، حيث أخذا في نشر العلم وإقامة الدين وتنظيم التجارة حتى ماتا ودفنا في قبريهما بفناء مسجدهما. وأقام الودانيون للحاج عثمان الذي ظل على صلة بهم من تيشيت قبرا ثانيا يتبركون به، جريا على عادة صنهاجية مألوفة، فصار يعرف بذي القبرين.
ولم تزل تيشيت منذ ذلك العهد في ازدهار تخرج العلماء والصلحاء وتؤسس المكتبات وتقوم بالخطط الدينية المختلفة إلى عهدنا هذا، وإن تأثرت مدا وجزرا بأحداث سياسية مختلفة مرت بها خلال العهد الوسيط، فقد امتد إليها في وقت من الأوقات نفوذ الإمبراطورية المالية المجاورة، ثم نفوذ دولة الأساكية، قبل أن تصلها مطامح السلطان السعدي محمد الشيخ الملك الذي كان راغبا في بسط نفوذه على الصحراء والاستفادة من ذهب السودان، فخاطب الأسكيا إسحاق الأول في ذات الموضوع عام 951هـ/ 1544م، لكن إسحاق لم يكتف بالرد بالتهديد، بل قرنه بتوجيه ألفين من التوارگ إلى وادي درعة فأغاروا على سوق عامرة هناك، ونهبوا ما وجدوه في طريقهم.
وجاء رد السلطان السعدي بعد ثلاثة عشر عاما بتوجيه حملة من ألفي رجل احتلت مدينة ودان بآدرار والممالح التي من حولها، وسار بنفسه حتى وصل إلى تيشيت فاستولى عليها ومهد نواحيها، ولعب عرب بني حسان لاسيما الرحامنة دورا أساسيا في هذه الحملة التي أخضعت قبائل المنطقة، فكافأهم السلطان بنقلهم إلى إقليم تامسنا (بين مراكش والرباط)، «وعين في تيشيت واليا ووضع تحت تصرفه حامية للسهر على سلامة السكان وحمايتهم من هجمات الأعراب (مارمول، إفريقيا)». ووقعت بمملحة تغازة مذبحة أدت إلى هرب التجار عنها، وتوقف نشاطها مما جعل السلطان محمد الشيخ يحس بالمرارة لمقاطعة تجار السونگاي لمملحة تغازة على إثر هذه المذبحة، فعرض على الأسكيا تصريحا له ببيع الملح مقابل جزء من الخراج، فكان نصيب الأسكيا من هذا الخراج يحمل إليه كل سنة، ولكن لم تمض سنوات حتى عاود الأسكيا احتلال تغازة مستغلا انشغال المغرب في خلافاته الداخلية.
وحكم المنصور السعدي سنة 986هـ/ 1578م فحاول أن ينهي قضية الممالح بطريق المسالمة فوجه سنة 991هـ/ 1583م وفدا كبيرا إلى گاوه، وحمله أحسن الهدايا وأثمنها، وأمر قائده مؤمن بن موسى العمري المعقلي بأن يعرض على الأسكيا محمد الثاني فرض مثقال للحمل على من يحل ببلاده من القوافل، ولكن الأسكيا لم يرض بهذا العرض، واكتفى بإرسال هدية سنية للمنصور.
وفي سنة 992هـ/ 1584م وجه المنصور حملة عسكرية إلى منطقة معادن الملح، ووصلت هذه الحملة إلى ودان بآدرار، ولكنها فشلت، فقد تاه بعض مجموعاتها، وداهمها العطش، بينما عادت البقية إلى مراكش، أو تفرقت في الأنحاء.
وفي سنة 994هـ/ 1585م احتل السعديون تغازة لفترة قصيرة، فوجه الأسكيا رسائل إلى تنبكتو بالمناداة في التجار بألا يذهب أحد إلى تغازة، وأن من ذهب إليها فماله هدر. وأمر الأسكيا بحفر معدن بديل أطلق عليه اسم تغازة الغزلان.
وازدادت خلال هذه الفترة أهمية السودان عند المنصور، وذلك بسبب نجاحه في استدراج سلطان بورنو- كانم إدريس الثاني إلى مبايعته سنة 990هـ/ 1582م، فقد كان إدريس الثاني راغبا في شراء الأسلحة النارية من السعديين بعدما ماطله العثمانيون في بيعها، فاغتنم المنصور السعدي الفرصة، وقايض له العزم على بيعها بالاعتراف به كخليفة عام لجميع المسلمين، فبايعه بيعة رسمية قرئت في كافة مساجد بورنو.
كما ازدادت أهمية السودان عند المنصور بسبب نجاح حملته التي بعث بها نحو المناطق الغربية لبلاد شنقيط سنة 992هـ (1584م) فلم تلق حربا، وأذعن لها السكان سواء قبائل بني حسان الوافدة، أو قبائل صنهاجة أصحاب الأرض، بل أذعن لها كذلك أمراء گنار وأغرمان والزنوج الواقعين شمال ضفة نهر السينغال، ونظموا لها الاستقبالات في قصور الركيز، وتندگسمي، وتيگماطين التي كان رئيسها يومئذ الشريف إبراهيم فال بن ساعيد بن رضوان فال بن عفان بن إبراهيم بن الشريف محمد (فوديه) بوبزول (أو ابنه) جد فالات گنار، وغيرهم، وكان من أمراء الزنوج ومشايخ أغرمان وبافور الذين استقبلوا الحملة المغربية مع الشريف إبراهم فال بن رضوان فال المذكور موسى چوپ، وگولي أخو يامر فال، لكن الجناح المراكشي من هذه الحملة تفرق فلم يعد منه إلى المغرب إلا قائده وبعض فصائله، وكانت هذه الحملة مؤلفة من جناحين: الأول مراكشي يتألف من العروسيين، وبعض التكنيين والدميسيين (أولاد بسباع)، ويقوده عبد المولى بن عيسى عامل تاكاوصت ووادي نول (الجنوب المغربي)، والثاني يقوده محمد بن سالم رئيس الشرطة الخليفية بفاس، ويتكون أساسا من الأندلسيين والشراگة، وهم عرب بادية تلمسان، فكانت هذه الحملة سببا في انتشار محلات العروسيين في مناطق مختلفة من بلاد شنقيط فترة من الزمن، وفي توطن بعض المجموعات التكنية، والسباعية المبكر بأرض الگبلة (محمد الغربي، بداية الحكم المغربي في السودان الغربي).
ثم جاء نزوح بني حسان ليخلق وضعا جديدا في تيشيت وصفه ليون آفريكان في كتابه وصف إفريقيا بقوله: «إن البرابيش يسكنون أيضا صحراء ليبيا [يقصد صحراء بلاد شنقيط] في قسمها الموالي لإقليم السوس وهم كثيرون وضعفاء، ولكن لديهم كثير من الإبل ويحكمون تيشيت.. وتقطن الأوداية [الودايا] الصحاري الواقعة بين ودان وولاته ويبسطون نفوذهم على السودانيين، ولا يكاد يحصى عددهم ويقدر المقاتلون منهم بسبعين ألف رجل لكن ليس لهم إلا عدد قليل من الخيل.. ويسيطر الرحامنة على الصحراء المجاورة بأقا، وكذلك على تيشيت التي اعتادوا الذهاب إليها كل شتاء، وخيولهم أيضا قليلة.. وتسكن أحمر [أولاد أعمُر] صحراء تگانوت [تگانت]، ويتلقون بعض الإعانات المالية من سكان قرية تگاووست [بالمغرب]، ويتنقلون في الصحراء إلى واد نون. ويبلغ عدد محاربيهم نحو ثمانية آلاف رجل».
بينما وصف تيشيت بأنها «مدينة صغيرة بناها النوميديون في تخوم صحراء ليبيا [يقصد صحراء بلاد شنقيط]، سورها مبني بالآجر النيء.. ولا يحيط بها سوى بادية رملية، ولو أنه يوجد في الواقع قرب المدينة مسافة صغيرة صالحة للحرث مغروسة بالنخيل، وأخرى يزرع فيها شعير ودخن».
ووصف مارمول تيشيت التي كتبها بالسين (تيست) بدل الشين فقال إنها في ذلك الوقت «خالية من أي رواج تجاري.. وتحيط بتيست [تيشيت] مساحات رملية باستثناء بعض الواحات التي تنتج التمر والزيتون والذرة، وبذلك يقتات الأهالي، وتيست [تيشيت] هي كذلك مقر الوالي الذي عينه ملك مراكش، ووضع تحت تصرفه حامية للسهر على سلامة السكان وحمايتهم من هجمات الأعراب الذين كانوا من قبل يفرضون عليهم إتاوة هامة.. والنساء يشتهرن هناك بحفظ القرآن، وبالإلمام بشؤون الدين، فيعلمن الأطفال الكتابة والقراءة، ويقمن بتلقينهم مبادئ دينهم، وعندما يبلغ الأولاد الذكور سن الرشد يتخلون عن الدراسة ويقبلون على التجارة أو على الأعمال اليدوية. وإلى جانب القيام بالتدريس تنكب النساء هناك على غزل الصوف والأوبار، لكن النساء الأخريات لا يشتغلن لذلك ترى الفقر يعم البيوت، ولا يتوفر القوت إلا للقليل من السكان، ولو كان بعضهم يملك قطيعا من الشياه أو الماعز، أما الفلاحون فإنهم يربطون الحصان مع الجمل لحرث الأرض لأنهم لا يملكون البقر، وأخيرا نقول إن بشرة الرجال سمراء وبشرة النساء بيضاء».
وقد ظن مترجمو كتابه (محمد حجي ومحمد الأخضر ومحمد زنيبر وأحمد التوفيق) أن الأمر لا يتعلق بتيشيت بل بمدينة على مقربة من وادي درعة تدعى أسا فقالوا في الهامش: ربما يقصد بها قرية أسا. لأن مارمول كتبها بالسين وقال في بعض مواضع كتابه: «ونشير إلى أن منطقة نون توجد بين تيست والبحر»،
وعلى هذا اعتمد بعض الباحثين مخافة الوقوع في الخطأ الذي حدث لبعضهم مع رحلة المولى إسماعيل العلوي حيث اعتقد أنه وصل إلى تيشيت في حين أن المقصود في رحلة المولى إسماعيل كان قرية مغربية تدعى تينيسيت، وحاولت أوديت دي بيگادو أن تبرهن على أن المقصود هنا لم يكن تيشيت الشنقيطية بل مدينة أخرى في جنوب المغرب، غير أن مقارنتي بين كتاب مارمول وبين كتاب اليون آفريكان بينت لي أن مارمول كان ينقل في فقرات عديدة مما كتب وصف ليون آفريكان لتيشيت، مما يبين أنها هي المقصود عنده وإن كتبها بالسين في ذلك المحل. إضافة إلى أن مارمول نفسه بين في موضع آخر من كتابه (الصفحة 107 من الجزء الأول) عند حديثه عن تفريعات بني حسان أن المقصود عنده تيشيت الشنقيطية وليس غيرها. ويواصل مارمول حديثه عن تيشيت قائلا: «وكان الرحامنة يعيشون في صحراء أقا ولهم أراضي كثيرة، ويأتون في الشتاء إلى تيشيت، وكان عددهم قديما يفوق عشرة آلاف محارب من بينهم سبعمائة فارس، لكن الشريف [محمد الشيخ السعدي] الذي ساعدوه في الاستيلاء على تيشيت ونواحيها كافأهم بنقلهم مع كل من كانوا معهم وأسكنهم إقليم تامسنا [بين مراكش وسلا] بمملكة فاس، حيث هلكوا جميعا في وقعة ضد أبي حسون الوطاسي».
ولما سقطت الدولة السعدية مرت تيشيت والمسالك التجارية الصحراوية بفترة من الاضطراب حيث استبدت المحلات الحسانية والعروسية والرماة الذين كان مركزهم بتنبكتو بالمنطقة، فلما جاء العلويون كتب المولى إسماعيل ظهيرا يعفي أهل تيشيت من المكوس التي كان قواده يجبونها على سكان المنطقة، ولما تساهل بعض القواد في تنفيذ هذا الظهير جدد أهل تيشيت الكتابة للمولى إسماعيل ليكف عنهم هؤلاء القواد.
ثم انتظمت الأحوال إلى حد بين بعد قيام النظام الأميري في البلاد، وازدهرت تيشيت علميا وتجاريا ازدهارا كبيرا جعل العلامة سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم يقول: لكل إقليم مدينة، ومدينة إقليمنا تيشيت. وقال يصف عمارة سوقها: "خرجت يوما من شنجيط رفقةٌ: اثنان وثلاثون ألفا موقرة بالملح، عشرون لأهله واثني عشر لأهل تيشيت، وباعت الرفقة كلها في زارا فتعجب الناس أي البلدين أعمر". وكان ملح ودان يباع في تيشيت بضعف ثمنه في ودان آنذاك، ثم يصرف من تيشيت إلى ولاته وأودغست وزارا. أما العلم والمعارف وكثرة المكتبات وثراؤها فقد صارت مضربا للمثل في ذلك، ويكفي أن الشيخ سيديا ارتحل إليها من القبلة رغم بعد المسافة بينهما للنهل من مكتباتها، كما أن أول مجموع للنوازل في البلاد وهو مجموع انبوي جمع نوازل تسعة من أشهر العلماء أربعة منهم من أهل تيشيت وحدها هم الحسن بن آغبدي الزيدي، ومحمد وأحمد ابني فاضل الشريف، والشريف حمى الله.
وكانت للتيشيتيين علاقات تجاوزت الحدود مع الدولة الماسنية ثم مع الدولة العمرية التي التحق بها في عهد الحاج عمر عدد من أعلام تيشيت، فقربهم الحاج عمر وجعلهم من وجوه دولته، «وكان لأبناء تيشيت مكانة كبيرة في العلاقات التجارية للدولة العمرية بعدما التحق بعض تجارهم بالحاج عمر في انيور خلال حملة كارته.. وأسسوا [هناك] حيا يدعى تيشيت، أنشأوا فيه المحاظر، ونظموا منه رحلات القوافل (أحمدو (جمال) بن الحسن، الحاج عمر الفوتي والمدرسة التجانية في تيشيت نقلا عن روبنسون)»، فكانت لهم الوجاهة التامة في تلك الدولة. ولم تزل مكانة تيشيت العلمية والحضارية ثابتة من خلال علمائها وصلحائها وخزاناتها العلمية طيلة فترة الاستعمار الفرنسي وبعد نشوء الدولة الموريتانية الحديثة.
الحسين بن محنض