الخميس
2024/03/28
آخر تحديث
الخميس 28 مارس 2024

زيارة لافروف لنواكشوط تضع موريتانيا أمام خيارات صعبة ومهمة في آن واحد

8 فبراير 2023 الساعة 17 و31 دقيقة
زيارة لافروف لنواكشوط تضع موريتانيا أمام خيارات صعبة (...)
طباعة

سيزور وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف نواكشوط غدا في زيارة هي الأولى من نوعها لشخصية روسية من هذا الحجم لبلادنا لأسباب يبدو أنها في غاية الأهمية . لكن لماذا موريتانيا الآن وفي هذا الظرف بالذات وقد كان لافروف يستثنيها من جولاته المغاربية باستمرار ! فهل خرجت موريتانيا من تحت التبعية العمياء للغرب ؟
أم هل أن الغرب أو فرنسا بالتحديد -وقد كانت تَعِدُ المنطقة بالتهديدات على لسان رؤسائها المتأخرين الحالي وسابقه -أصبحت رخوة ضعيفة في وجه التحولات الكبيرة ؟ وبالتالي لم تعد ضامنا للأمن في المنطقة ! أم أن موريتانيا أصبحت مهمة لروسيا بحكم التطورات الجيوبولوتيكية الحالية ؟
يثير نقاش هذه التساؤلات الخوض في خريطة العالم وفي التحولات التي يشهدها بتأثير صعود وهبوط القوى، وهنا يجدر بنا التذكير بأهمية التوجه الروسي الحالي للعالم من حيث المبدأ إذ أن روسيا دولة قوية يمكن الوثوق بها لإنها الوريث الشرعي لقوة عالمية لها خصائصها التاريخية والفكرية والسياسية والاستراتيجية والعسكرية فهي تتنافس مع الولايات المتحدة الأمريكية على المركز الأولى والثاني نوويا وتقليديا ولها نفس التوجه الذي يعبر عن مصلحة الكثير من بلدان العالم بما في ذلك تلك الضعيفة منها ، ولها القدرة - وهذا من أهم تجليات القوة- القدرة على قول" لا" أمام درجة عالية من الغطرسة وابتلاع الثروة العالمية بلا وازع من قيم ولا فضيلة رغم مايشاع من حقوق الإنسان .
روسيا ببعدها الثقافى الشرقي الذي ينتمي له ويتقاطع معه نصف بلدان العالم تقريبا تمثل الوجه الآخر لمشاعر انسانية مختلفة لثقافة متجذرة عبر التاريخ …وتمثل مع ذلك القوة التي تصنع توازن الرعب الذي يمكن أن ينمو في كنفه طموح لتطوير نصف العالم بما في ذلك بلدان إفريقيا التي بدات تشعر بالحاجة لتغيير علاقاتها التقليدية بالغرب ، في ضوء علاقات احترام ونقل وتبادل الخبرة والمنافع واستغلال مواردها في جو يطبعه السلم بعيدا عن فكرة الاستعمار أو الاستنزاف ،وهذا ما تبديه روسيا وما يريده الكل إنه الدفء في ظل الهروب من قرون من الهيمنة الاستعمارية والغطرسة والنهب والتدمير …… الظروف الحالية التي تمر بها روسيا والتي تدفع من خلالها ثمن هذا التوجه الذي يتجاوزها إلى مجموعة كبيرة من الدول لإنها تمثل مركزا لثقافات عديدة وتمتد إقليمياً من الشرق الأقصى إلى شرقي أوروبا. ومن الناحية الثقافية فإنها تضم جمهوريات وأقاليم ومناطق حكم ذاتي سلافية وإسلامية، فضلاً عن الأقليات الألمانية واليهودية وغيرها. وإلى جانب التوزع بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية هناك التوزع بين المذهبين السني والشيعي إنها تحيلنا دائما إلى نزعة الحرب الباردة حيث كان هناك جزء من العالم يدور في فلك روسيا للأسباب نفسها ،صحيح أن الايديولوجية الروسية لم تكن مغرية لكثير من الشعوب لكنها أيضا كانت القطاء لكثير من بلدان العالم الذي لايرى ذاته في العالم الغربي .واليوم سيكون الوزن الروسي أهم مع اضمحلال الفكر الشيوعي وبقاء مظلة القوة والمصالح الاقتصادية الصرفة المتبادلة والتي يمكن أن تخلقها روسيا لجانب دول أخرى ، مع افتضاح دور الغرب في افغانستان والعراق والربيع العربي ، وفي الأخير تريد روسيا أن تخدم فكرة مناهضة لذلك تماما لها نصيبها من القبول والرواج بين دول وشعوب العالم وهي خلق قطب اقتصادي وخلق القوة لحمايته .هذه الأهمية الجيوبولوتيكية التي تحاول روسيا لعبها تلتقي مع طموح لمجموعة كبيرة من دول العالم تملك هي الأخرى أبعادًا ثقافية واقتصادية وتاريخية وفكرية ضمن التاريخ البشري وتريد الطريق للمستقبل ، فقد ظلت تركيا أكثر من 600سنة سيدة العالم الاسلامي وصاحبت أكبر امبراطورية تمتد شرقا وغربا عبرثلاث قرات إفريقيا واروبا وآسيا وهي اليوم من خلال صعودها تعبر عن تلك الثقافة والحنين لذلك التاريخ وتلتقي في ذلك مع روسيا القيصرية والتنين الصيني والهند تاريخ يمتد لآلاف السنين ويمثل ثقافة عريقة ومناهضة للثقافة العربية إنها بصفة عامة دول لاتريد أن تذوب في ثقافة الراب والمسخ .الصين قوة اقتصادية متعاظمة وتملك علاقات جيدة بالعالم الثالث وتبحث باستمرار عن سوق استهلاكية في ضوء المنافسة الحرة وأثبتت جدارتها للعب الدور الريادي ، لكن الغرب مازال يسيطر على الأسواق وعلى المنافذ وينتشر عبر البحار والأجواء في العالم ولايريد فتح الطريق لغيره نحو الخيرات الطبيعية في بقية دول العالم الثالث …روسيا والصين والهند وتركيا والارجنتين وجنوب إفريقيا …لايريدون استعمار أحد ولا يسعون لتكبيل الاقتصاد العالمي بعملتهم كما تريد وتفعل آمريكا من خلال الدولار وأوروبا من خلال اليورو …ولا من خلال النظام العالمي المسخر تحت الشرعية الدولية للقرارات الأكثر فتكا بالدول والشعوب كما في حالة افغانستان والعراق وليبيا وسوريا ….ويريدون فقط المرور "توسيع الطريق قليلا " إلى الاسواق ..هذه الوضعية هي التي أدت للتوتر عالي الضغط من خلال أوكرانيا وتايوان والذي تحاول من خلاله الولايات المتحدة الاستمرار في فرض القطب الواحد .
الأحداث التي تدور حول روسيا هي بالضبط لأجل منعها من هذا التوجه الرافض لتلك الغطرسة لكن اليوم بصغة مختلفة وهي وضع قوة نووية قادرة على دكّ حصونها خلال سبع دقائق على حدودها .إن روسيا لم تفعل سوى محاولة توسيع أصابع الغرب حول رقبتها رغم أنها تملك اتفاقيات سلم مع الغرب على خلفية تفكيك الاتحاد السوفيتي حيث لم يلتزم الغرب بالجوهر السلمي لتلك الاتفاقيات وابتلع دول حلف وارسو بل الدول الروسية السابقة في حلفه العسكري "الناتو" من أجل منع روسيا ليس من نفوذها فقط لكن وضعها تحت تهديد دائم ،وهكذا اضطرت روسيا لاستخدام قوتها العسكرية لمنع تطويقها وتحييدها سياسيا وتحاول أن تحشد التأييد لشرعية موقفها وهنا يجدر بنا عود إلى بدأ ،. إلى التساؤل المنطقي في ضوء هذا التجاذب عن دواعي زيارة لافروف لموريتانيا وعلاقتها بتوضيح ووجاهة الموقف الروسي لموريتانيا ودعوتها على تبني موقفا حياديا خاصة بالنسبة لعدم قبولها بأن تكون حلقة من حلقات ابتزاز روسيا أو للضغط عليها سواء أمنيًا بأن تكون قاعدة مقابلة للوجود الروسي في مالي أو لفض التحالف مع الجزائر أو اقتصاديا بأن تصبح قاعدة لنفوذ إقتصادي أوروبي لتوجيه ضربات لمصالح روسيا خاصة بالنسبة للطاقة والغاز بالتحديد .أن يمضي لافرور يوما كاملا وليلة في نواكشوط فذلك ليس فقط من أجل ابلاغ رسالة من بوتين لغزواني . فلن يتطلب ذلك رجل الروسي الثاني وكل هذا الوقت، وهكذا تكون الزيارة لأمور أعمق وهنا قد يتسلل إلى الذهن اقتراح بتسليح موريتانيا وفتح باب التحديث والتكوين والتنسيق العسكري عوضا عن فرنسا التي لم تمنح سوى أسلحة خفيفة لحلفائها في حين تريد أن تترك في رقابهم حربا بالوكالة مفتوحة على الأرض وفي الزمن مع حركات وعصابة خطيرة ومتغلغلة في مجتمعاتهم .كانت فرنسا تريد أن تغادر شمال مالي وتترك مسؤوليته لدول الشمال مع مساعدات تقدر ب 368 مليون يورو حصة فرنسا منها 18 مليون يورو فقط وهي في الغالب خردة سلاح ومعدات! و100 مليون دولار تم استجداء دول الخليج لمنحها والباقي مساهمة الاتحاد الاوروبي وآلمانيا والولايات المتحدة ..ومع بخلها هذا في اتجاه "خَدمها " هكذا يخيّل إليها، كانت فرنسا تنفق مليار دولار سنويا على قوة باراخان . ومع ذلك رفضت اقتراح قوة الساحل بتمويلها بمليار أورو في السنة الأولى لتحهيز وأعداد الجيوش و300مليون أورو تمويل العمليات كل سنة ..كما يملك لافروف القدرة على اقتراحات مفيدة للبلد من قبيل التعاون في مجال الزراعة والصيد وغيرها بعيدا عن لغة التهديد والمصالح في جهة واحدة .ورغم أن أي معلومات حول الزيارة لم تتسرب ورغم أن جواسيس ومخابرات الغرب وفرنسا خاصة في نواكشوط جن جنونهم الأسبوع الماضي للتوصل لأي معلومات عن هذه الزيارة فإن الحكومة الموريتانية بقبولها لهذه الزيارة وبهذه التفاصيل العميقة تبدي رغبة جديدة في امتلاك قرارها الوطني الذي يخدم مصلحتها الذاتية وهو نمط قديم عند موريتانيا في التعبير عن الذات فقد أخذ المرحوم المختار ولد داداه موقفا جريئا حينها حينما قام بشطب المصالح الفرنسية "تصميم مؤفرما"وأوقفت الاتفاقيات العسكرية وشاركت بقوة في صناعة عدم الانحياز، وكذلك فترة معاوية الذي جاء عبر التخطيط الفرنسي "جانه لاكاز" حيث أوقف التنسيق والتعاون العسكري مع فرنسا عندما أوقف القضاء الفرنسي الضابط إعل ولد الحاج الذي جاءها للتدريب ،،،وهي اليوم تشعر بحاجة أكبر إلى مثل ذلك الموقف ليس بوصفه طموحا سياسيا لكن لأنه يلتقي مع حاجة وتفكير رئيسها الحالي الذي يسعى لترميم الوضع الاقتصادي وإصلاح القطاعات الاساسية التي تقع تحت تدمير الاستنزاف الأجنبي وضعف الخبرة والذي يريد أيضا وهذا استمرارا لجهوده السابقة بناء جيش جمهوري قوي …فبوجود قوة لاتريد أكثر من تبادل المصالح سيكون الأمر مهم لصياغة وضع إقتصادي وعسكري جديد للبلد.. فهل يقدم لافروف ضمانات بهذا الشأن .
الوضع الموريتاني الحالي مقسم بين الاستقرار وعدمه فهناك بؤر متعددة للقطبين ( الغربي والروسي )ويمكن استغلالهما في وجه أي موقف جديد تتخذه موريتانيا وهما الأمن على الحدود والأمن الداخلي .ففرنسا لها تأثير مهم على الأمن الداخلي وروسيا لها تأثير أكبر على الأمن الخارجي من خلال حلف مالي الجزائر 3000كلم متاخمة لحدود موريتانيا ،البرية …وتاريخيا هناك تداخل وعلاقات متميزة لموريتانيا بهاتين الدولتين …الأمن الداخلي أساسه بعض الحركات المتطرفة وبعض الليبراليين المتحكمين في مفاصل الدولة و"أقنان" الاعلام والذين يستمدون قوتهم من الجيش والقدرة على تحريك المطالب السياسية ومن ثم الاحتقان والانقلاب وقد أخذ هذا السيناريو وتلك القوة في التراجع مع مبادرة غزواني الصامتة وضع أسس لبناء جيش مهني جمهوري وامتصاص التطرف …ويبقى الجانب الاقتصادي حيث ظل الفساد والغرب يمثلان القوة الضاغطة والتي توجه قرار الدولة العميقة باليد مدودوة في الأسفل والعصىفوق الرأس، ومع أننا نعيش على أنغام محاكمة نظام سابق بسبب تجاوز قوانين الفساد ، ونقوم بتنظيم وبمراجعة طريقة استغلال الثروات الموريتانية من طرف الشركاء الأجانب حتى ولو كانوا غربيين عبر اتفاق تقاسم الانتاج "المدروس "أو على الأقل الواضح المعالم والذي لا يتضمن لحد الآن أي نمط مثل ( فرانس آفريك) ويكون بذلك تأثير هذا التحالف الذي يسيّر من داخل الغرب قد إنفك .لكن من بين كل ذلك هناك طارئ هو أن موريتانيا أصبحت بوزنها الطاقوي الجديد قرابة 100ترليون مترمكعب من الغاز الثالثة افريقيا ، وساحة للطاقة الهيدروجينية تمثل مصدر قلق لروسيا ومنطقة اهتمام للغرب وهي أهمية ووزن جديدين على خريطة الصراع أو السباق بين القوى المتنازعة اليوم في العالم دون أن تكون لها القدرة على الامساك بزمام أو رأس أيا من أطراف خيط النزاع لكنها بدل ذلك تظل لها القدرة على حسن إدارة الخروج من هذه الوضعية بكسب فرص أكبر لمصلحتها …فهل ذلك هو المناورة الأساسية التي يتبعها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني عبر استقباله ل لافروف في هذا الوقت بالذات لتكسب موريتانيا موقعا تفاوضيا مهما مع الطرفين ولكسب مصالح تقوي بها نهجها نحو بناء فكرتها الكبيرة التي هي الاكتفاء الذاتي والقدرة على استقلال مواردها بمكاسب أكبر وتقوية مركزها العسكري و الأمني . إدارة هذه المرحلة تتطلب هدوءا عاما وانسجاما داخليا يقوي من لحمة الجبهة الداخلية ويوصد الباب أمام استغلال الخلافات الداخلية التي عادة تضعف جدية الحكومة والتأثير على قرارها الوطني وهو ما استبقه غزواني من اليوم الأول بفتح باب التهدئة من أجل ضمان تنبني قرارات وطنية كبيرة . ويبقى السؤال المطروح أمام إثارة كل هذه الاشكالات هو هل يحمل لافروف الرسالة التالية لنواكشوط المبطنة "أن روسيا لها نفس التأثير من خلال البؤرة الأمنية بواسطة الحلف (الجزائر ومالي) على موريتانيا لتحل محل اسرائيل في تسليح وتدريب المتطرفين ضد موريتانيا إذا ما حاولت أن تكون ورقة في يد الغرب للتأثير على أهمية "غاز ابروم" أو أن تسمح بأن تكون قاعدة عسكرية غربية للتأثير على الوجود الروسي في مالي" .
لا يريد لا فروف على خلفية السياسية الخارجية الروسية استمالة موريتانيا ضد الغرب رغم أن النصر الروسي وشيك فقد تمكن الروس من تحييد أوكورانيا عن معايير الناتو وهي الهزيمة الاولى للغرب خاصة الولايات المتحدة في هذه الحرب ويبقى القرار بشأن إطالة وتوسيع رقعة ومدة الحرب مرتبطة بوتيرة المفاوضات فإذا كانت الحرب مستمر فإن المفاوضات أيضا مستمرة بين رئيسي السي آي والكاجابى عبر لقائهما في الامارات .
لكن روسيا مع ذلك قد تكون هي الأخرى تتبعت طموح غزواني لبلده وهكذا تسعى للتعامل مع شريك لا يخلوا من حنكة وشرعية وإرادة وهو ما يجعله في المركز المناسب لاتخاذ القرار الذي يضمن مصالح موريتانيا في ضوء الخريطة السابقة للوضع .أما بالنسبة لي وحتى وإن كنت لا أقدّر وزن هذا الرأي في تفكير غزواني فإن التعامل مع روسيا سيكون أفضل بكثير من البقاء في أحضان فرنسا والغرب الذي جربناه طيلة تاريخنا الحديث وكانت النتيجة جزء كبير من التبعية الاقتصادية والسياسية والجزء الآخر من الخوف على استقرار البلد والمنطقة بسبب تزايد الانقلابات والتوتر .

الإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار