الجمعة
2024/03/29
آخر تحديث
الخميس 28 مارس 2024

ملاحظات على جنازة الصوفي ولد الشين

17 فبراير 2023 الساعة 10 و00 دقيقة
ملاحظات على جنازة الصوفي ولد الشين
طباعة

لم يشهد نواكشوط مثل هذه الجنازة التي ودّع بها سكانه هذا الشاب الاستثنائي صاحب الصورة التي لم تُعرف، للأسف، إلا بعد وفاته. صحيح أن الرئيس غزواني لا يحتفي غالبا بالكفاءات والأدوار الكبيرة التي تدعمه من غير عجين الأنظمة المتعاقبة أو الذين جاؤوا معه كمن يدخل أحسن حديقة للطيور فيأخذ من بين أجمل الطيور بُومة ومالك الحزين. إنه مع ذلك، وعلى درجة حصافته، يضيّع فرصا عميقة للانفتاح الذي كان من صنعه و الذي حرر فيه النفوس من الكثير من الضغائن والأحكام الثابتة المسبقة من النظام وفتح الأمل للطاقات الهاربة بأن فكرت في العودة للبلد. كانت جنازة المرحوم الصوفي الذي لم يستثمر فيه أحد - أعني النظام - تفوق كل ما مر على البلد من الحشود الجنائزية ، وبدرجة تنوعها أيضا فاقت جنائز الرؤساء والعلماء ورجال الأعمال، ومع ذلك كانت جنازة لشاب من لحراطين لا يملك سوى حبه لشعبه. إنها ميزة أصبحت- ويا لسعادتنا- عنصر جمع . لا يغريني الانسجام القائل بأن درجة البشاعة هي التي أحاطته بهذا التعاطف ، فقبل أشهر قُتل شاب في رعيان شبابه في التدريب العسكري على نفس الدرجة من الوحشية دون أن يحظي بعشر الزخم الحالي رغم أن التواصل الاجتماعي الذي لا يخضع لأي رقيب هو المسؤول عن الحشد والتجييش. وهنا أتوقف عند الملاحظة اللاحقة بأن المجتمع مرتهن لحساسية لحراطين بالأساس من أي سلوك -يحمل إشارة الدولة من قريب أو بعيد- اتجاههم بتأثير التشبث بآلام الماضي الذي يلقي بظلاله ويخيم على الموقف من الدولة وبسبب الغياب عن النمو الاقتصادي لفترة طويلة، معتبرين أنهم يقعون تحت ظلم تاريخي ودائم، وأن الدولة ليست إلا تجلٍ لذلك الحيف في أبهى واعتى صوره. إن شيئا من ذلك يقع تحت البنية العميقة للمجتمع التي يدعمها انعدام الوعي والتخلف وغياب توجيه الدولة في جميع مراحل التكوين الفردي والتأثير في المجتمع السياسي ..وهذا الفهم في الحقيقة لا يقدم نحو توحيد المشاعر من الدولة ويتعارض مع منطق الدولة الوطنية التي هي مسار تاريخي للمؤسسات والاصلاحات. كان البرلمان الامريكي إلى غاية 1988 خاليا من أي أسود وكذلك المراتب العليا القيادية في الجيش قبل كولون باوول ، كما يخلو من الهنود الحمر: السكان الأصليين …كانت هناك حروب داخلية من أجل حقوقهم المدنية، واستمر ذلك عقودا، لكن الأهم، رغم تاريخ التهميش والاذلال والاحتقار، أنه تم بناء الثقة في الدولة وفي مؤسساتها، ورغم الخشونة الدائمة للشرطة الامريكية، فإن الأمر يظل يخضع للمؤسسات والقانون. لقد حظيت هذه الموسسات بالثقة مع الوقت . بينما ما زالت الدولة الموريتانية تحمّل الكثير من المسؤوليات بالنسبة لغياب العدالة والمساواة رغم أنها تظل الدولة الفتية من بين الدول التي صادقت على كل القوانين التحديثية خاصة المتعلقة باستغلال الانسان، إلا أن سوء الفهم لا ينفك بل يظل هو القاعدة . إننا اليوم نواجه مستقبلا قاتما أمام أي حادث مماثل يقع لأي معارض أو لأي مجموعة من هذه الشريحة. إنها قنبلة موقوتة نجلس عليها كلنا ،و لا تمهلنا الآجال ولا تخضع للتعقل لأنها موجة قوية يسهل تحريكها وركوبها في كل وقت. إنها تعطي الأثِرة والجاه لأفراد من جهة ، والدمار والخراب للمجتمع من جهة أخرى، ولهذا ظل التعلق بالدور الشخصي الذي كان يقوم به المرحوم الصوفي كطوق نجاة للمجتمع قوي ومؤثر وكان هناك حضور لافت للعلماء .إن هذا الوضع يجعل كل صور الاستقرار غير يقينية خاصة أمام مظاهر ضعف الدولة في العمق .إننا نلاحظ أن أي مؤسسة ولا أي مستوى تراتبي في الدولة ولا أي مسؤول لم يستطع وقف هذا الهدير الجماهيري ، إلا عندما تدخل الرئيس .إن كل مؤسسات الدولة القضائية والأمنية والصحية والادارية لم تحظ بأي قيمة في هذه القضية. وهذا يعني مستوى عال من عدم المصداقية ومن انعدام الثقة و هو ثاني أكبر خطر يواجهه البلد .إن الدولة بهذه الوضعية ليست وظيفية وغير قادرة على التصدي لأي موجة من نوبات الغضب الجماهيري خاصة تلك الملونة منها إلا بأعلى درجات القوة، وهذا لايمكن أبدا أن يكون الضمان الوحيد للتعايش . من سيصدق رئيس الجمهورية لو كان المغدور أحد رموز التيارات الحقوقية المعارضة ؟ إننا ورغم تداول الحقيقة بين الناس :كون المرحوم الصوفي ليس مستهدفا من طرف النظام ، لم يجعل أي بيان ولا أي تصريح يوقف اندفاع القابلية للعنف ويقنع الناس بحجج الدولة .لقد أصبحت صفحة وزير الصحة كسبورة لشرح التقرير الذي تفترض فيه السرية، ومع ذلك لم يهتم أحد. إن هذا النوع هو أقل درجات المصداقية للمؤسسات عندما يتطلب توقيف هذا الشحن اتصال رئيس الجمهورية بأهل الضحية ومنحهم كل الضمانات والترضيات المناسبة.. أيمكن أن تكون هذه آلية دائمة ضمن وظيفية الدولة لامتصاص الصدمات؟.. إننا اليوم في كيان على حافة الفشل أمام تعدد وتزايد وتشابك المصالح الخارجية فيه .لم تعد موريتانيا تلك الدولة الفقيرة المرمية في غرب إفريقيا. إنها خريطة من الخيرات الطبيعية وأرض بكر لم يتم حسم القضايا الأكثر تأثيرا على السلم فيها وتعرف بروز فاعلين مستعدين لاحراق البلد من أجل إشفاء الغليل وصارت بتغير العقيدة الاستراتيجية لحلف الناتو وبمزيد من تدخل وحضور الروس داخل المنطقة دولة ضمن خريطة التوتر .
المؤسسات الوطنية لايمكنها بشكلها الحالي أن تتحمل عبء التحول ولا امتصاص الصدمات وحتى مع استخدام الدولة للديمقراطية وحقوق الانسان كشعارات لن تفيد كثيرا .إن قطاع الأمن، خاصة الشرطة، لا يملك المؤهلات الأساسية للعب دوره ضمن منطق الحكامة وحسن ،ومهنية المعاملة. إنه قطاع متوقف عن التكوين والتاهيل بالنسبة لكل من يلجه، فخلال 28سنة لا يتجاوز أكثرهم إلى رتبة عريف وفي أحسن الأحوال وللمحظوظين إلى رتبة مساعد، لكنهم على نفس الدرجة من التكوين، فمنذ التحاقهم بالقطاع لا يحصلون على أي تأهيل ولا تدريب ولا زيادة معلومات ويحملون نفس القيم والمعنويات الضعيفة . إنهم شبه عبيد بالقانون تحت رحمة المفوض الذي يستخدمهم لتنفيذ الاوامر العليا أو "القضائية" في بعض الأحوال والعمل من جهة ثانية لمصلحة المفوض وفي جميع الحالات بأقل وسائل ودرجات المهنية .
الحادثة الأخيرة لها دلالة واضحة على استهتار بعض من أفراد الشرطة لاغير . إن المفوض على علم بأنهم سيعنفون شخصا خارج القانون من أجل "انتزاع" تسديد دين بالضمان، وليس دينا مباشرا إن كان موجود في الأصل . العقلية والممارسة وضعف التكوين هي عناصر هذه الحادثة الحزينة وهي نفسها السارية في أغلب القطاع بل القطاعات الأمنية بالكامل .
يسري نفس الأمر على القضاء، لا يتعلق الأمر بتضارب بيانات الوكيل التي بناها على معلومات الشرطة التي كانت لبعض الوقت تحت هول الصدمة من سوء التصرف، لكن الأمر مرتبط بقطاع يمثل بالنسبة للمجتمع صورة مشوهة لقضاء يرزح تحت مستويات عالية من انعدام المهنية وسوء استغلال الصلاحيات والبراعة في الظلم وتضارب القرارات والتباطؤ والرشوة مع استثناءات ضئيلة . إنه في الحقيقة غير جاهز للعب الدور الكبير في هذه المعركة .وعلى نحو أقل فاعلية من ذلك تمثل الادارة نمطا من الفوضوية وعدم التراكم وفكر المنفعة والتآمر على مصلحة الدولة والمجتمع وغياب الفاعلية والتنظيم الأمر الذي يضع المصداقية إلى جانب، وهكذا ينخرط التعليم وهو يحمل سوء المرحلة من خلال دعم وتقوية صور التشتت إلى الإطار العام الذي يحيط بصورة الفشل هذه وعدم الجاهزية وانعدام المصداقية .
هذه الوضعية لا يمكن أن تنمو معها أي صورة لمصداقية الدولة ولا لدولة المؤسسات، خاصة أنه يقابلها تزايد الوعي الحقوقي من دون مرتكزات كموضة الرقص أو كنوع من الانتماء للعالم المتحضر ومظهر للوعي السطحي بالحقوق لا بالواجبات، ذلك النمط الذي يغري بالتعنت ومواجهة السلطة كنوع من الزعامة لا ينبني على أي أهداف ويلتقي على نحو واسع بنمو الولوج للانترنت ب15 ضعف خلال السنوات العشرة الماضية بالاضافة إلى تفوق نسبة الشباب في المجتمع التي وصلت 70% ونسبة التسيب المدرسي التي وصلت 84% إلى نهاية التحصيل ونسبة البطالة والفقر والمرتفعتين. هذه الحالة لم يعد للنظام، رغم مليونية الانخراط في الحزب الحاكم، ولا لرجالاته ولا لسياسييه أو إعلامييه القدرة في توجهيه لحظات الذروة، وحتى إن كان مشوبا بالارتكاز للسطحية والشائعات وسط غياب خطوط التوافق .
خلال هذا الوضع لم يوجد لحد الآن من ضامن للأمن إلا السلوك الشخصي للرئيس الذي غيّر من نمط تعامله وتعامل الدولة مع القضايا الوطنية، لكن ذلك ليس ضمن الآلية الوظيفية للدولة والتي يمكن استمرارها لأنه مرتبط بشخص وبوجوده الزمني المحدود في السلطة .إننا بحاجة لدمج هذه الآلية وبصفة مستقلة في جهاز الدولة كبرنامج أصلاحي عميق يضع في أولوياته تأهيل مؤسسات الدولة ووضعها موضع الثقة والقدرة على التصدي لصدمات وتناقضات المجتمع ،وتُحشد له جميع قدرات ومقدرات الدولة ويوضع ضمن خطة وجدول زمنيين .إننا بهذه الحالة لن نضمن بقاء الدولة للغد رغم أنها قد تستمر أيضا لوقت أطول لكن في كنف وضع من سوء اليقين بالمستقبل وبالأمان .
الإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار