الجمعة
2024/04/26
آخر تحديث
الجمعة 26 أبريل 2024

رحلة في الوثائق السرية لصدام حسين

21 مارس 2023 الساعة 09 و03 دقيقة
رحلة في الوثائق السرية لصدام حسين
طباعة

في 2 أغسطس/آب 1990، غزا الجيش العراقي الكويت الغنية بالنفط. لم يكن الأمر محض مغامرة انبثقت في رأس دكتاتور عسكري فقرَّر تنفيذها، بل كان للأمر مقدمات سياسية واقتصادية. فقد كان الاقتصاد العراقي في موقف صعب بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية بسبب الديون، وحاول نظام صدام على مدار عام 1989 إقناع الكويت التي ساعدته ماديا في الحرب أن تُسقِط عن العراق ديونه، زاعما أنه لولا الحرب التي خاضها لهيمنت إيران على الكويت، لكن حُجة صدام لم تجد آذانا مصغية عند الدولة الخليجية.

كان نظام صدام في أمسِّ الحاجة أيضا إلى قرار من منظمة "أوبك" بخفض إنتاج النفط ومن ثمَّ رفع الأسعار من أجل حلِّ مشكلاته الاقتصادية، بينما تمسَّكت الكويت بموقفها وخالفت رغبات العراق. بالإضافة إلى ذلك، اتَّهم صدام الكويت بأنها تسرق النفط العراقي عبر استخدام تقنية الحفر المائل المتقدمة. وقد اعتبر صدام أن هذه المواقف ترقى إلى كونها "تصرُّفات عدائية"، وأرسل 100 ألف جندي عراقي إلى حدود بلاده مع الكويت في يوليو/تموز 1990، ثم بدأ الغزو.

انتهى قرار غزو الكويت إلى تشكيل الولايات المتحدة تحالفا دوليا من 34 دولة شاركت فيه دول عربية، واستطاع التحالف طرد الجيش العراقي من الكويت، وخضع العراق بعد ذلك للحظر والعقوبات طيلة 13 عاما، فضلا عن إجباره على دفع تعويضات كبيرة للكويت عبر الأمم المتحدة. وقد خسر صدام بهذا القرار كل ما جناه في السنوات السابقة، وكتب شهادة وفاة مبكرة لتجربة العراق الذي كان يُنظر إليه في ثمانينيات القرن العشرين على نطاق واسع بوصفه أقوى دولة عربية من الناحية العسكرية والاقتصادية وحتى العلمية.

منذ عام 1990 وحتى اللحظة، أُسيل الكثير من الحبر في الأروقة الصحافية والأكاديمية العربية والغربية حول أسباب اتخاذ صدام حسين قرار الحرب رغم عواقبه المُحتملة، وحلَّل كثيرون النظام البعثي وزعيمه نفسيا وسياسيا، لكن لماذا نسمع عن صدام إذا كان بإمكاننا أن نسمع منه مباشرة؟ بعد الغزو الأميركي للعراق في 2003، تم الاستيلاء على العديد من وثائق النظام العراقي السابق ونشرها، بما فيها تسجيلات ومحاضر اجتماعات بين صدام حسين ورجال نظامه من العسكريين والمدنيين. ورغم أن تلك الوثائق لا تحتوي على حديث مباشر يكشف لنا ما الذي دار في عقل صدام حول غزو الكويت، فإنها تُضيء لنا مساحات مظلمة تُمكِّننا من كشف طبيعة تفكير الرئيس العراقي حول الأمر.

على الأرجح، فإن الصورة النمطية التي رسخها الإعلام الغربي عن صدام لم تتَسِم بالعمق الكافي في رسمها شخصية الرجل بوصفه حاكما وحشيا ومندفعا في قراراته بحيث لم يستطع أحد في العراق أن يختلف معه فيها. وحتى بعض الباحثين الذين عملوا على تحليل وثائق اجتماعاته مع قادته قد اقتطعوا أجزاء من أحاديثه لرجاله يقول فيها كيف إنه يعرف مَن يخونه قبل أن يخونه، واستخدموها في ترسيخ صورة عن دائرة حُكمه مفادها بأن كُل مَن حوله كانوا مجرد دُمى خائفة لا تقدر على تقديم المشورة السليمة له.

ساعدت بعض الوقائع التاريخية في ترسيخ تلك الصورة، فقد بدأ الرجل حكمه بإعدام 17 قياديا بعثيا بتهمة التدبير لانقلاب عسكري، بالإضافة إلى إعدام وزير الصحة العراقي "رياض إبراهيم"، الذي تتعدد الروايات حوله، وإحداها أن الرجل أُعدِم لأنه جرؤ على اقتراح التنحي على صدام في اجتماع عام 1982، وإن لم تثبت صحة تلك الرواية من عدمها. كما أن طبيعة نظام صدام البوليسية المُحكمة، وقراراته التي اتسمت في أوقات كثيرة بالعنف المُفرط، جعلت العديد من الباحثين يقتنعون أن القرارات التي اتخذها الرئيس العراقي وتسبَّبت في دمار نظامه وبلاده، وعلى رأسها غزو الكويت، نتجت عن رهبة رجاله منه، ومن ثمَّ عزوفهم عن تقديم أي نصح حقيقي للرجل.

لكن التعمق في قراءة محاضر وتسجيلات اجتماعات صدام حسين مع رجاله، التي رُفعت عنها السرية بعد الغزو الأميركي للعراق، تُظهر وجها آخر للحاكم المستبد. فقد قاطعه رجاله في كثير من الأحيان واختلفوا معه، كما اختلف معهم الرئيس بهدوء وأدب. ولم تكن لقاءات صدام مع رجاله بمنزلة حفلات نفاق، ورغم نقاشاتها الجادة فإنها لم تخلُ من المزاح. ولا يظهر رجاله في التسجيلات باعتبارهم موظفين منعدمي الشخصية يرتعدون خوفا أثناء الحديث أمامه، ولا يظهر هو بمظهر القائد القاسي الذي ينهر مرؤوسيه. وتحتوي النقاشات على تعليقات ذكية على المستوى السياسي والفلسفي والتنظيمي، بالأخص من جانب صدام حسين ومستشاره ووزير خارجيته "طارق عزيز".

تُظهِر الوثائق إذن أن علاقة صدام برجاله كانت أكثر تركيبا مما ظنَّ أو صوَّر كثيرون. وصحيح أن صدام أنشأ دولة بوليسية بكل المقاييس، حيث يعرف كل شخص أنه تحت المراقبة وأن أي تحرك ينافي الولاء للنظام البعثي ورئيسه يُعرِّضه للهلاك؛ لكن هذا لم يَعنِ أن صدام شجَّع حاشيته على النفاق في النقاشات الموضوعية أو أنه كتم أصواتهم إذا ما تحدثوا أو لم ينصت لهم باحترام. ونجد في أحد الاجتماعات التي التقى فيها مع مسؤوليه بتاريخ 6 مارس/آذار 1987 لمناقشة ضرب المدن الإيرانية أثناء الحرب بين البلدين أنه شجَّعهم على طرح الأسئلة وقول آرائهم، وأجاب برحابة عن استفساراتهم التفصيلية العسكرية. وحين ناقش "عزة الدوري"، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، في الاجتماع أمرا خضع لسلطة صدام وحده وتعلَّق بالسلاح الكيماوي، مُقترحا التحفظ في استخدام كميات كبيرة منه حتى لا يتبدَّد في حال لم يكن الإنتاج كافيا ووفيرا؛ أجابه صدام بأسلوب مهذب بقوله إنه لا داعي للقلق، موضحا أن السلاح الكيماوي تحت سلطته المباشرة ولن يُستخدَم إلا بأمره، وأنه يعرف كمياته وكيف يستخدمه ومتى بالضبط.

ونرى في اجتماع آخر غير محدد التاريخ، ويُرجَّح أنه في بداية الثمانينيات، نقاشا حول الاتحاد السوفيتي والأمم المتحدة والولايات المتحدة، حيث قاطع طارق عزيز صدام أثناء حوار عاتب فيه الأخير وزير خارجيته، وطلب صدام بأدب استكمال فكرته قائلا: "دعني أتحدث، أعطني فرصة"، وفي الاجتماع نفسه الذي اختلف فيه مع طارق عزيز قال له: "بالطبع سأعطيك كل الحق في التعبير عن رأيك وقناعتك كما يحلو لك". وفي اجتماع آخر بتاريخ 24 يوليو/تموز 1986، كان "طه يس" نائب رئيس الوزراء العراقي آنذاك يخبر صدام بمعلومات متعلقة بالإخوان المسلمين في مصر وقدراتهم وتأثيرهم على أفرع الإخوان في الأقطار العربية، ولم يشعر صدام حسين بالحرج من القول إنه "لم يكن يعلم تلك المعلومات من قبل" أمام مرؤوسيه.

الرئيس العراقي صدام حسين (إلى اليسار) يترأس اجتماعا مشتركا لمجلس قيادة الثورة العراقي وحزب البعث الحاكم، رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز يظهر على اليمين الثالث. (رويترز)
كل هذه مجرد أمثلة على نمط سائد في الاجتماعات المُسرَّبة، حيث استمع صدام جيدا لرجاله وتحاور معهم، وكما قال في الاجتماع سابق الذكر: "يجب أن نستمع ولا ننزعج من النقد، خاصة في اجتماعات القيادة، لأن كل كلمة لها وزنها وأهميتها"، وذلك عندما شعر أن طارق عزيز غير مرتاح للنقد. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن صدام عادة ما كان يستخدم الألقاب في مخاطبة مرؤوسيه وكان يناديهم عادة بلقب "رفيق"، وإذا كانت لهم ألقاب أخرى يناديهم بها، فكان يقول للقيادي البعثي سعدون الحمادي "يا دكتور" حين يخاطبه.

وبحسب ما قاله "زياد عزيز" نجل طارق عزيز بعد سنوات من إعدام صدام: "كل مَن يقول إن صدام لم يكن يسمع هو كاذب، لكن سماعه لا يعني أنه نفَّذ ما قاله أحدهم، فهذا أمر، وذاك أمر آخر". وكان صدام حذرا أيضا فيما يخص التقدير المُنصِف لأعدائه، فقد قال لرجاله في ذروة الحرب مع إيران إن الحكام الإيرانيين ليسوا رجال دين بسطاء يرتدون العمائم، بل أذكياء ويُحسنون التصرف مع العالم وشراء أسلحة من السوق السوداء بشكل أفضل حتى من العراق (في إشارة إلى قضية إيران غيت)، وحذَّر قادته من الاستهانة بالقدرات الإيرانية.

ورغم ما وجده بعض الباحثين الغربيين في الوثائق من أن رجال مخابرات صدام في سنوات النظام الأخيرة انهمكوا في نظريات المؤامرة، مثل البحث حول كون "البوكيمون مؤامرة صهيونية"، فإن وثائق ما قبل حرب الكويت أظهرت سلوكا مختلفا لرجال صدام مقارنة بسنواتهم الأخيرة، إذ يتضح من الوثائق أن الدائرة المُقرَّبة من الرئيس كانت مثقفة إلى حد مقبول، وحاولت أن يكون لها منظور بعيد المدى أثناء دراستها لظروف البلدان العربية المختلفة. ففي اجتماع يوليو/تموز 1986، أخبر نائب رئيس الوزراء "طه ياسين" الرئيسَ بتحليله للأوضاع في مصر قائلا إن "قادة الموضة القديمة للإخوان المسلمين في مصر ربما سيبقون لمدة 20 عاما، وبعد ذلك سيحل محلهم جيل جديد نشط منفتح الذهن".

يبدو صدام في الوثائق أيضا زعيما حَذِرا وليس مغرورا ومندفعا كما يصور عادة، حتى إنه في اجتماع أوائل الثمانينيات حول الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة حذَّر رجاله من الغرور قائلا: "ينبغي ألا يصاب أحد منا بالغرور حين يظن أنه يعرف كل شيء. عندما يصبح المرء متعجرفا فإن هذه الغطرسة ستقضي عليه. أنا أتحدث عن السياسة هنا. يجب على الجميع الانتباه إلى هذا الأمر. عندما يصاب الجندي اللامع بالغطرسة، ويرى أن كل كلماته واستنتاجاته صحيحة ولا يمكن لأحد أن يتوصل إلى الاستنتاجات مثله، فأنت تعلم أنه في يوم من الأيام سوف يقرعه جندي آخر أقل كفاءة منه". وثمَّة مفارقة هناك لأنه حذَّرهم مما يرى كثيرون أنه حدث له بالفعل بعد سنوات.

خلاصة القول، يمكننا أن نرى من الوثائق أن صدام كان مُحاطا بمستشارين نشطين في فترة الثمانينيات أكثر من غيرها، وأنهم حاولوا دائما التفكير بهدوء في مناخ اجتماعات منفتح برئاسة صدام، وهو مناخ يخالف الصورة النمطية للدكتاتور التقليدي الذي يقسو على حاشيته حين يكون لها رأي مخالف. ولذلك قد يحيرنا كيف اتخذ هؤلاء بعد ذلك سلسلة من القرارات التي أهلكت النظام بل والبلاد بأكملها منذ غزو الكويت وما بعده. ولكن إذا نظرنا بعناية، فسنرَ أن هؤلاء الرجال لم يختلفوا معه جذريا في قضية كُبرى، ولم يناقشوه في الخطوط الرئيسية لأفكاره، بل ناقشوا الخطط الفرعية والتفاصيل فحسب.

معايير اختيار صدام لقائد حرسه الجمهوري الخاص، وهي الوحدة الأكثر تدريبا وولاء له في الجيش نظريا، استندت إلى ثلاث دعامات هي نَسَبُه ومقدار غبائه وجُبنه، لأن القائد لو كان شجاعا وذكيا فربما تصبح له تطلعات لا تُحمد عواقبها بالنسبة للنظام.

لم يمدح رجال صدام رئيسَهم في الاجتماعات مدحا مباشرا كما تشير الوثائق، لكنهم فعلوا ذلك بطريقة أكثر ذكاء كما حدث عندما قدَّم طارق عزيز في اجتماع بخصوص تعديل الدستور العراقي أمثلة من مُختلف دول العالم (بما فيها الدول الغربية) على مَيل الناس نحو اختيار الرئيس الذي يعرفونه، وذلك للإيحاء بأن الناس في العراق سيقبلون صدام دائما ولن يرغبوا في استبداله، ولكن دون التصريح بذلك مباشرة. وإذا مددنا الخط على استقامته، فيمكننا تخمين ما حدث حين اقتنع صدام بفكرة المقامرة الإستراتيجية بغزو الكويت، وكيف أمكن للدائرة المحيطة به أن تستخدم الأسلوب نفسه لإثبات ذكاء هذا القرار. وقد أخبر صدام مجلس قيادته بقرار الغزو قبل 4 ساعات فقط من عبور القوات العراقية حدود الكويت، ولذا لم يجد رجاله سوى الإثناء عليه. وقال طارق عزيز إنه عارض القرار لكن صدام في النهاية حسم موقفه.

وبعيدا عن الدائرة الضيقة لرجال صدام، فإن هيكل نظامه على مستوى الأجهزة لم يُتح للدولة أن تعمل بكفاءة. فقد رفض صدام أن تُعطيه مخابراته تقاريرها مُرفقة بالتحليلات، وبالأخص فيما يتعلق بالشأن الأميركي، لأن هذه الملفات على حد قوله احتاجت إلى رجل سياسة وليس إلى رجل مخابرات. وعلى جانب آخر كانت طبيعة النظام البوليسية تؤدي في النهاية إلى أن يصبح البقاء والترقي للأضعف والأقل ذكاء داخل الأجهزة الاستخباراتية والعسكرية، لأنها سمات لم تشكل خطرا على النظام في المستقبل. وبحسب المقابلات التي أُجريت مع كبار القادة العسكريين في العراق بعد الغزو الأميركي، فإن معايير اختيار صدام لقائد حرسه الجمهوري الخاص، وهي الوحدة الأكثر تدريبا وولاء له في الجيش نظريا، استندت إلى ثلاث دعامات هي نَسَبُه ومقدار غبائه وجُبنه، لأن القائد لو كان شجاعا وذكيا فربما تصبح له تطلعات لا تُحمد عواقبها بالنسبة للنظام.

ما يعسر على الكثير من الباحثين رؤيته أثناء التعامل مع وثائق صدام هو التعامل معه باعتباره شخصية مركبة مليئة بالتناقضات، فهو مَن يستمع جيدا لمستشاريه ويناقشهم ويجيب عن أسئلتهم العسكرية الحساسة والدقيقة، وهو نفسه مَن يبلغهم بقرار غزو الكويت قبل تنفيذه بأربع ساعات. ولكن لماذا اتخذ صدام قرارا مثل غزو الكويت في الأساس؟

يرى المؤرخ والمحلل العسكري "كيفن وودز"، الذي عمل على وثائق صدام لوقت طويل وله رأي سلبي في الرئيس الراحل، أن صدام كان عبقريا في إدارة الشأن الداخلي العراقي على نحو حفظ سيطرته في ظل ظروف شديدة التعقيد. ومع ذلك، كان الأمر معاكسا في إدارته للشأن الخارجي. وقد يظن البعض أن التفكير الوردي المتفائل غلب على صدام، وأن هذا ما أودى به إلى تلك المغامرات، لكن ما تظهره الوثائق غير ذلك تماما.

ففي أثناء احتدام الحرب مع إيران، ورغم تأكيد معاونيه أن الشعب العراقي أظهر توحُّدا كبيرا مع القيادة، قال صدام في أحد الاجتماعات إن هناك أيضا مَن يَسبُّون الضباط حين يبلغونهم بموت أولادهم في الحرب، ومن ثم ينبغي العمل دائما على التعبئة والحشد المعنوي بطريقة ذكية وفعالة، وبدأ في اقتراح تكتيكات مفصلة لطريقة تعامل وسائل الإعلام مع الحرب. لم تكن مغامرة صدام في الكويت إذن مبنية على تصوُّر وردي بقدر ما شكَّلتها عدة عوامل، أبرزها تقديره المبالغ فيه لقوة جيشه.

تشي الوثائق بأن قادة الجيش العراقي في الثمانينيات بالغوا في تقدير قدراتهم العسكرية. ففي اجتماع مجهول التاريخ، لكن مُرجح أنه تمَّ قُبيْل غزو الكويت، رأى صدام أن إنجلترا تقلل من شأن قوته العسكرية وقدرته على المناورة. وفي عام 1988، بحسب وثائق تسجيلات اجتماعات قيادة الجيش، وزَّع قادة الجيش العراقي اقتباسا منسوبا إلى رئيس الوزراء الفرنسي في هذه الفترة "جاك شيراك" يقول فيه إن العراق قادم من بين دول العالم الثالث ليلحق برَكب الدول المتقدمة. وقد اقتنع القادة بعدئذ أن الحرب الضرورية مع إيران استحوذت على الموارد التي كان من المفترض أن تُوجَّه لدعم نمو البلدان وتقدمها، ومن ثمَّ لم يستطع العراق أن يصير دولة متقدمة في منتصف الثمانينيات كما كان متوقعا.

على المنوال ذاته، قال وزير الدفاع العراقي بفخر في تسجيلات أحد الاجتماعات إن إسرائيل تخاف أينما ذُكِر العراق، وكان القادة العراقيون يقولون إن "العراق حاليا هو البلد الأول من حيث إنتاج الهاون". علاوة على ذلك، عبَّر المُشرف على الصناعة العسكرية في هذه الاجتماعات عن رأيه بأن العراق أمة من البشر المُنتجين النشِطين، وأنها مُحاطة بدول متخلفة ومُنقسمة. وتعقيبا على ذلك التصور المبالغ فيه عن قدرات الجيش العراقي، حاول الرئيس المصري الراحل "محمد حسني مبارك" أن يسخر من صدام بعد هزيمته في الكويت في خُطَبِه، لا سيما نظرة صدام لجيشه، وشبَّه مبارك تلك الحالة بتقديرات النظام المصري المُبالغ فيها لجيشه قبل هزيمة عام 1967. ولعل صدام حسين يتشابه بالفعل مع جمال عبد الناصر من بعض الوجوه. على سبيل المثال، أنفق الرئيس العراقي على جيشه وطوَّره مثلما فعل الرئيس المصري الأسبق، ونتيجة لذلك بات واثقا فيه ثقة مُفرِطة سرعان ما أثبتت الأيام خطأها، وخصوصا أنها تجاهلت ما قام به الآخرون من تطوير جيوشهم في الوقت نفسه.

لقد كانت أحدث ذكرى في ذهن صدام عن الجيش الأميركي هي حرب فيتنام، ولذلك لعله اعتقد أن بإمكانه محاربة الأميركيين في الكويت حتى يحصل على تنازلات كبيرة. ولكن ما لم يعرفه الرئيس العراقي هو أن الولايات المتحدة بحلول هذا الوقت كانت قد تعلَّمت دروس الماضي وحقَّقت مستوى عاليا من التفوق العسكري والتكنولوجي، الذي جعلها على أتم الاستعداد لحسم حرب الخليج، ومن ثمَّ إعلان ميلاد عالم جديد هيمنت فيه وحدها حتى وقت قريب. وقد اقتنع صدام أن احتمالية دخول الولايات المتحدة الحرب لا تتعدى 50%، وأنه في حال دخولها يمتلك خطة للاشتباك معها وتعطيلها، ثم الدخول في مفاوضات طويلة يمكن أن يأخذ فيها نصف مساحة الكويت. وقد أخبر صدام نظيره الرئيس اليمني "علي عبد الله صالح" أن لديه خطة لحماية المدنيين عبر إخلاء بغداد، مع تكتيكات أخرى في حال استخدمت الولايات المتحدة الأسلحة النووية.

منذ حرب الخليج الأولى وحتى الآن، ما زال يُطرح بكثافة السؤال عما إذا كانت الولايات المتحدة قد ورَّطت صدام حسين في الحرب عن طريق إعطاء إيماءات ملتبسة له حول الأمر بواسطة دبلوماسييها. وهنا ينبغي الإشارة إلى عدة أمور لفهم أبعاد هذا الالتباس المعقد نسبيا، أولها هو أن أغلبية الباحثين في الملف العراقي أو ملف دراسات الحرب الباردة وما بعدها يرون أنه لا دليل على أن الولايات المتحدة ورَّطت صدام في الحرب، بل العكس، فقد حذَّرت الولايات المتحدة من عواقب التعدي على الكويت، وإن بلهجة دبلوماسية مُخففة.

ورغم ذلك فإن هناك عدة حقائق لا يمكن تجاهلها حقا في هذا السياق، منها أن الولايات المتحدة أبلغت صدام قبل الغزو أنها ليس لديها التزامات أمنية أو دفاعية تجاه الكويت، وأنها لا تملك رأيا في الخلاف الحدودي بين العراق والكويت ولا في الخلافات العربية-العربية عموما. وقد قالت بعد ذلك "أبريل جلاسبي"، سفيرة الولايات المتحدة في العراق وقت غزو الكويت، إن الإدارة الأميركية ظنت أن صدام يُلوِّح بالقوة فحسب كي يجبر الكويت على إسقاط ديونه، لكنه لن يغزو البلاد فعلا.

الحقيقة الأهم هي أنه قبل عامين فقط من غزو الكويت كانت الولايات المتحدة قد ساعدت صدام حسين في ضرب الإيرانيين بالأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا، فهي مَن أعطته أماكنهم عبر أقمارها الصناعية وتقاريرها رغم معرفتها بأنه سيستخدم تلك الأسلحة المحرمة ضد الإيرانيين، لكن إدارة الرئيس ريغان وقتها رأت أن إيران ينبغي ألا تنتصر تحت أي ظرف، وهي إشارة ربما استنتج منها صدام أن الولايات المتحدة منحته ضوءا أخضر لفعل أي شيء، بما في ذلك غزو الكويت.

الأغرب ربما أن أحد الدوافع الرئيسية لصدام من غزوه الكويت كان هو اكتساب وزن إستراتيجي أكبر من وجهة نظر الولايات المتحدة، حيث تُظهِر الوثائق أن صدام في أحد اجتماعاته اعتقد أن إيران تزن أكثر من العراق في المنظور الإستراتيجي الأميركي لأنها تشترك في الحدود مع الاتحاد السوفيتي، بالإضافة إلى حدودها البحرية مع الدول المنتجة للنفط في الخليج العربي. ومن ثم اقتنع صدام بأن أميركا لن تدخل في صراع جدي مع إيران بسبب ثقلها الإستراتيجي، ولعله فكَّر في إمكانية اكتساب ثقل إستراتيجي أكبر بغزو الكويت، مستفيدا من انشغال الغرب بمجريات الأحداث في ألمانيا والاتحاد السوفيتي آنذاك.

وكما يظهر، فإن جملة عوامل مركبة تلاعبت بعقل صدام ودفعته لاتخاذ قرار غزو الكويت، على رأسها اعتقاده أن احتمالات تدخُّل الولايات المتحدة لا تزيد على 50%، فضلا عن اعتقاده بأن جيشه من الجيوش العظمى في العالم ويمكنه أن يصمد في مواجهة الولايات المتحدة، وأن جائزة غزو الكويت إن تحققت بحيازة النفط الكويتي فستجعل له نفوذا أقوى في أوبك، وتحل أزمة الديون، وتتيح للعراق استكمال طريقه نحو التحوُّل إلى دولة عظمى وربما نووية أيضا.

غير أن الأمور لا تقف عند هذا الحد على ما يبدو، يبدو أن مسحة من "الروحانية" كانت حاضرة في قرارات صدام المثيرة للجدل ومنها قرار غزوه الكويت. قد اشتهر العديد من القادة العسكريين والسياسيين باعتقادهم في وجود علاقة خاصة تجمعهم بالقدر، مثل الإشارات والأحلام والنبوءات، التي دفعتهم إلى اتخاذ قرارات عسكرية على درجة عالية من الخطورة في معارك مصيرية، وهي خطوات اعتقد مَن حولهم أنها تؤدي بهم إلى الهلاك لا شك، ثم فوجئوا في الأخير بأنها حققت فوزا عظيما. في الواقع، تشارك صدام تلك السِّمَة مع بعض هؤلاء القادة، إذ كانت علاقته بالرؤى والأحلام وطيدة، كما تمتَّع بذلك الشعور الاستثنائي بأن خطواته مؤيَّدة من القدر.

يظهر ذلك في الكثير من الشواهد سواء في لقاءاته الصحافية والتلفزيونية أو حتى في اجتماعاته السرية مع قادته. ففي اجتماع أثناء حرب الخليج الثانية بتاريخ 16 ديسمبر/كانون الأول 1991، وفي وقت سرت فيه الرياح بما لم يشتهِ الرئيس العراقي، قال صدام: "إن شاء الله سيخسرون، وهذا هو أهم شيء. لقد خسروا المعركة على المستويين الإنساني والأخلاقي. إن شاء الله ستكسبون كل شيء. سوف تفوزون على هذا المستوى، وكذلك على المستوى المادي". لقد ملأه الأمل رغم أن كل مجريات المشهد أشارت إلى العكس.

يعتقد الكثير من الباحثين أن اتجاهات صدام حسين الروحانية والدينية برزت في أعقاب حرب الخليج الثانية بالتزامن مع قراره وضع عبارة "الله أكبر" على العلم العراقي، وأنها تكلَّلت بمشهد محاكمته التي انتهت بإعدامه، حيث أظهر فيه الكثير من الرمزيات الإسلامية. ولكن وثائق اجتماعاته تُظهِر أن هذا الجانب الإيماني والإسلامي حضر في اجتماعات القيادة العراقية البعثية منذ الثمانينيات، إذ ضرب صدام المثل بمجتمع النُّبوَّة بوصفه النموذج الذي يُحتذى به، كما أن بعض الحاضرين، وعلى رأسهم عزة الدوري، حاول استلهام طرق التعبئة من تجارب الخلافة الراشدة والمجتمع النبوي.

في النهاية، لعل إيمان صدام حسين بأن الأيام ستُنصِف خطواته مهما شابتها المخاطرة، وثقته المبالغ فيها بقدراته العسكرية، واعتقاده بأن الولايات المتحدة لن تدخل الحرب؛ قد لعب الدور الرئيسي في اتخاذه القرار النهائي بغزو الكويت. وبشكل من الأشكال، يبدو صدام وكأنه تأثر في الكثير من تصرفاته بمقولة المُفكر السياسي الإيطالي "نيقولا ميكيافيللي": "الحظ مثل المرأة، لن تكون تحت سيطرتك إلا إذا رأتك مُغامرا وجَسورا".

المصدر