الثلاثاء
2024/04/30
آخر تحديث
الثلاثاء 30 أبريل 2024

محمد محمود ولد بكار يكتب: محاسبات كبرى(الحلقة 4)

20 يناير 2024 الساعة 21 و00 دقيقة
محمد محمود ولد بكار يكتب: محاسبات كبرى(الحلقة 4)
طباعة

في المحصلة، كان مؤتمر ألاگ نجاحا باهرا، وكان مظهر نجاحه العميق هو الخروج أول مرة عن الانصياع للمستعمر في تبني بعض خياراته خاصة الانضمام لكتلة جنوب الصحراء وضد إرادته في تعميم العربية، كما خرجت كتلة گورگول من تحت عباءته. وهكذا لجأ المستعمر، في النهاية، إلى أطر سينغاليين قادمين مع الإدارة لضرب الوحدة الوطنية. كانت هناك شخصية وازنة من مجموعة التسعة عشر - ليست الوحيدة- لم تتمكن من الدخول إلى نظام السجل السكاني الجديد 2015 إلا بقرار سياسي. وهكذا كان ولد عبد العزيز دائما يضيع حسناته، فقد تم منح حق التسجيل لمرشح سابق للرئاسيات لم يكن يملأ الخانات الأساسية للتسجيل في السجل الوطني، وتم نسيان الشاب الوطني الذي رفض تسجيله حتى بعدما جاءته الأوامر العليا، بل وطلب من إدارته تحويله من هناك إذا كان لابد من تسجيل هذا الشخص الذي لا يتوفر على الشروط الضرورية لحالة مدنية. وفي الأخير تم تسجيل المعني في ولاية مجاورة.
كانت فرنسا تريد التخلص من موريتانيا دون أي ترتيب للبيت الداخلي سوى هذا المؤتمر، كما ظل يسري في اعتقادها أيضا أنها لن تكون بعيدة، فقد غرست "ربيبها" وغرست مجموعة من المشاعر المتناقضة حيال الدولة الوطنية. لم يكن المختار كما تصورتْ تماما، وكان هذا هو خطأها الكبير الثاني، فقد أخذ مساحة كبيرة من فرنسا، بدأت تتسع مع الوقت وأفضت في النهاية إلى تأميم ميفرما (شركة الحديد) التي تملك الدولة الفرنسية فيها 52% والخروج من منطقة الفرنك الافريقي وإجراء إصلاحات في التعليم، ما قزّم الفرنسية، لكنه في نفس الوقت أخذ يزهو بصورته المعروضة أمامه والتي تزين جميع الجدران كرئيس للجمهورية ودون أن يفكر في أي خليفة له في البلد، أي أنه ظل يعتقد بأهليته للرئاسة ما دام حيا. وهكذا أصبحت غايته القصوى التمسك بالسلطة إلى النهاية دون تبني أي مسار تقويمي أو أي إطار للمراجعات أو للتناوب. وهكذا أيضا جاءت الدولة كسلطة فقط تسكن في قلوب قادتها بحيث يترتب على الكل طاعة المختار والذهاب في رغباته في بسط سلطانه وتوكيد فردانيته، ومع ذلك ظلت شوكة كبيرة تغوص في خاصرة الحكم، ليست المعارضة الواسعة وحدها، لكن الظل الفرنسي الذي يفرض عليهم الابقاء على مصالح الدولة الفرنسية رغم أنها كانت ضعيفة في موريتانيا، إلا أن المختار أيضا لم يكن في النهاية من أكثر أبنائها "برورا" بها، فقد صوت ضد فرنسا في قضايا عديدة في افريقيا. كان المختار رجل دولة في الواقع من حيث الكاريزما الشخصية، وكان على مسافة بعيدة من المال العام، وكان فريقه قاطبة يملك نفس العقيدة. وقد ساهم في ذلك أنهم ظلوا متمسكين بأدوات وآليات التسيير الإدارية الفرنسية التي كانوا يمزجونها بالعفة. كان أحدهم يكرر دائما على مسامعنا أن جيلهم لم يشربوا الخمر أبدا، "ليس لأنه حرام فحسب، لا، لكن لأننا نعتبره نقيصة وخارج عادتنا". وهكذا كانت سرقة المال العام معرّة بنفس الدرجة. كان الظرف يتطلب من الرئيس حينها أن يكون، وبناء على ثقافته ورجاحة عقله، زعيما وطنيا ملهما، لكن طاقاته الفكرية والعقلية وكياسته ظهرت في المجتمع الدولي أكثر من التركيز على التأسيس. لقد لعب في الحقيقة أدوارًا بمستوى يفوق حجم الدولة بكثير: تجلى ذلك في عدم الانحياز، وفي تقزيم المد الصهيونى في افريقيا، وفي ديبلوماسية المفاوضات والوساطة بين دول عظمى مثل الصين ومصر، واستضاف أكبر القادة في عهده لبلده مثل الملك فيصل والأحمد الصباح والقذافي وشيوخ تورو، وموبوتو وعمر بونگو وبورگيبة. وقد تم استقباله في زيارات دولة في الصين وفرنسا وغيرها. كان في الحقيقة لاعبا دوليا مرموقا واحترافيا. ومع ذلك جاءت الدولة الوطنية دون أن تؤثر في حياة الناس وكأنه لم يأخذ من حصافته تلك لحل معضلاتها الداخلية. ولهذا لم تأخذ الإنطلاقة والأوضاع الداخلية نفس القوة ولا نفس البعد من قوة البصيرة والتركيز. وقد انعكس ذلك على معاملة الناس لها، فقد عاملوها بنفس القدر الذي يعاملون به دولة النصارى من التوجس والحذر، فلم يعبأوا لها، ولم يبنوا عليها أي طموح في حياتهم، وبالمقابل لم تعطيهم هي أي شيء، ولم تخلق نسقا تنظيميا يخلق قيما جديدة تنقل الناس من مستوى البداوة إلى مستوى الحضر، ولا بالرقي الفكري نحو تبني قيم مجردة مثل المصلحة العليا، والمساواة، وأهمية الخدمة والعمل، مثل الانتظام والانتظار والطابور، ولم تخلق مناهج تربوية مفعمة بالتاريخ والشرف والعزيمة والارادة والقوة التي أعطت لإنسان هذه الأرض الفرصة لأن يلعب الدور الحضاري والإشعاع الثقافي والديني والفكري الذي وصلوا به لغرب سويسرا وجنوب فرنسا وابتلعوا به شبه القارة الايبيرية وجزءا كبيرا من المغرب العربي وإفريقيا حتى حدود إيبيريا، ولا أي شيء عن تضحيات الآباء والأجداد، وكأننا خلقنا غداة الاستقلال مثل نبتة ذابلة. لقد غاب عن المؤسسين أن دولة بلا تاريخ ليس لها مجد بين الأمم، وأن تاريخا من دون تضحيات ليس تاريخا موحدا. وأكثر من ذلك، فإن اجتثاث التاريخ يعمل على فك الارتباط بالمجد العام. وهكذا لا يعود الفرد يرى في كيان الدولة أي مثال حي لشرفه وكرامته المرتبطة بمواقف الإباء والتي تستحق أن يخدمها بالتضحية في سياق تقفي الأثر.
لقد ظلت عاداتنا البدوية نفسها: اللامبالاة، الترحال، عدم الانضباط، عدم احترام الدور أو الأسبقية. وهكذا لم تعبِّر الدولة عن نفسها ككيان عمومي يجب أن يقّر في وجداننا ويقوم على خدمتنا وفيه مصلحة الجميع. لقد حلت محل الاستعمار، ولم تكشف عن الاختلاف ولا عن برنامجها ولا طموحها. لم يتم غرس الروح الوطنية. وعلى العكس من ذلك، أخذت روح الأسرة والقبيلة والجهوية في التوكيد، وعلى نحو متناقض، فقد تم تجنيد سلطان الدولة لها في أحايين كثيرة، لدرجة تفوقت بها ذاتية الفرد حتى بين أفراد النخبة أنفسهم على ذاتية الدولة. وبهذا لم يحصل الاندماج بين الفرد والمجتمع والدولة في ذاتية واحدة، وظل الانقسام ماثلا للعيان. وهنا يجب التنويه ببعض الاستثناءات في التذكير بسلطان الدولة، فقد حبس المختار الشيوخ سنة 1964 عندما جاؤوا بعد ثورة البرلمان على مؤتر كيهيدي لنفس السنة الذي اعتبر أغلب الفريق الذي يعمل معه أنه انقلاب على الديمقراطية، وجاؤوا بالشيوخ من أجل إسقاطه. أما الثانية فهي أمام اجتماع لأمير اترارزة، إحبيب ولد أحمد سالم، في "حصرت آوليك"، فقد فرغه وعاقب من حضر. كان ذلك مؤقتا وحسب سياقات محددة، ولم يكن توجها قويا دائما، ومع ذلك لابد من التأكيد بأن الدولة بقيت هنا في نواكشوط في حيزها الصغير ودوائرها وأبنيتها، منعزلة عن الشعب في همومه العريضة وفي فضائه الواسع وفي أوديته وخلاءاته. يرعى مواشيه ويزرع أراضيه، لا يعرف الكثير عن الدولة كذات فعلية للمصلحة العمومية أو مظلة أهم وأقوى من القبيلة، بل ظل الناس يعرفون الدولة من خلال القبيلة والشيخ والأمير الذي يؤكد (وشرحا للفقرة السابقة) قوته الشخصية دون الدولة أو كمفتاح وحيد وإجباري لها ، أمام أي أحد من رعيته.
لقد شكل الوسطاء العرفيون الاجتماعيون (الأمراء، الشيوخ، المشايخ) دويلات صغيرة موغلة في التخلف والبعد عن فهم قواعد المدنية، غير متعلمة ولا متمدنة، تعيش في جوف الدولة وبتزكية من الدولة نفسها في الكثير من الحالات. لقد قام المختار ولد داداه مثلا بزيارة خاصة لعبد الرحمن ولد بكار مرتين في تگانت، واحدة على خلفية غضب عبد الرحمن غضبا شديدا من حاكم المجريّه الذي أراد تنفيذ قرار الحكومة بشأن إجبارية التعليم بالقوة، تلقى الوالي الخبر وأبرق لنواكشوط، وجاء وزير الداخلية مصطحبا معه أعضاء الإدارة الإقليمية، لكن عبد الرحمن استشاط غضبا بسبب أنه أتاه بالحاكم ضمن وفده، فرجع وزير الداخلية ووصلت برقية سريعة للوالي بأن الرئيس سيزور تگانت وسيتوجه رأسًا إلى "دابر"، موضع في تگانت توجد به "الحلّة". وعندما قدم إليه، أعد له استقبالا ضخما عند جبل صغير مازال يحمل إسم "إگليبْ ولد داداه". وترك عبد الرحمن المختار في مكان ضيافته حتى يستريح، وذهب إلى خيمته. وبعد صلاة العصر قال المختار، ولحسن الخلق، أنه هو من سيذهب إلى عبد الرحمن في خيمته، فاستقبله بأحر ترحيب. وبعد شُرب الكأس الأول، قال المختار أنه يريد الحديث لعبد الرحمن على انفراد. كان ذلك شتاء، وكانت الخيمة مغطاة الجوانب "مُدَفْيَه"، فقال عبد الرحمن: "راد الله ما يَبْگَ افذِ الخيمة ماهُ آن والمختار والتَيّايْ"، فخرج الناس من الخيمة، لكنهم وقفوا خلف الغطاء، يسترقون السمع. وكان المختار يصطحب دفتر ملاحظات، وطلب من عبد الرحمن التحدث، فقال له: "يا لمختار آن شيباني، أُ سَفِيه، إلّ فاتْ من عمري أكثر من الباقي، لا إنْخَصّر إعليك موريتان"، فقال له المختار: "ماهُ فالكم يالدان، نحن لم نأمر بما يغضبكم، وعلى استعداد لكل ما تريد، فنحن لا نستغني عن دعمكم...". أمر المختار بتحويل الحاكم، وقدم بتوصيات أخرى، لكن الحقيقة أن عبد الرحمن كان السند القوي للمختار خلال مسيرتهما وأثناء اختيار المختار رئيسا وأثناء ضعف بيضة الدولة وضعف نظام المختار المحارب من جهات عدة. كما قام بعد ذلك الجيش، على خلفية انقلاب 1978 ، بتسيير وفود رسمية إلى بعض الشخصيات الكبيرة لشرح دواعي الانقلاب. وقد كان رد الأمير عبد الرحمن ولد بكار عليهم أن "الگِمْيَاوِي لا يمكنه أن يكون حاكما لأنه لا يعرف إلا تنفيذ الأوامر سواء رئيسا تُنفذ أوامره حرفيا أو مرؤوسا ينفذ الأوامر حرفيا ، وهذا لا يمكن لصاحبه أن يسوسَ دولة". وفي جميع الأحوال، لم تستطع الدولة إلى اليوم، بسبب انعدام الوعي والمواطنة، أن تستغني عن الشيوخ والمشايخ بوصفهم فاعلين كبارا رئيسيين في العملية السياسية وفي عون الإدارة، لكنهم للأسف حافظوا على نفس التوجهات والعقليات القبلية المحضة والنعرات والأحاسيس البدائية، ولم ينتقلوا من ذلك المربع، كما أن من خلفهم ظل لا يبرحه بأي شكل خدمة لنفس التفكير والرهانات الصغيرة والانصياع لرغبات القبيلة. وهكذا لم يشاركوا في المساهمة في بناء الدولة… لقد ظلت الدولة ضيفا على المجتمع، لا يحبها ولا يكرهها ولا يفهمها. وكان يهرب عنها في البوادي بحثا عن الكلأ، ولم يكن دخوله للمدن بسبب الإشعاع الوطني والخدمات المتطورة والفرص الكبيرة والدفء الذي توفره حياة المدينة، بل بسبب محنة الجفاف الذي طرده واستهلك كل ما لديه. لقد أصبح الرهان الكبير والأول هو البحث فقط عن القوت اليومي، ولم تكن الدولة- للأسف- جاهزة لاحتضان الناس، بل صاروا لاجئين مرميين في أحياء عشوائية تزداد هشاشة وظلمة وفوضوية كل يوم، ولذلك لم تتغير عاداتهم ولا سلوكهم البدوي ولا موقفهم من الدولة، فلا يوجد في حياتهم ما يفرض الانتظام ولا تغيير العادات والقيم، ولا يدفع لتبديل سلوك ولا فهم المواطنين للمجال العمومي ولا ضرورة الانضباط، والأسوأ من ذلك أيضا أن الدولة التي لم تتبنّ برنامجا لدمجهم في الحياة المدنية تركتهم يؤسسون مفهوم الگزرة التي صارت نمط حياة بشع إلى اليوم، فقد انتقل سكان نواكشوط من 2000 نسمة سنة 1960 إلى 175000 نسمة سنة 1974 أو 250000 بسبب سنوات الجفاف التي انطلقت من سنة 1968 تقريبا أو عام "لِحْمَيْرَه". كان الفعل الرحيم الذي تبنته الدولة في مواجهة تلك المحنة، ليس استصلاح الاراضي أو تعليم طرق الصيد، بل قامت بسخاء بإعادة توزيع الصدقات التي حصلت عليها من العالم ضد الجفاف. حافظت الدولة على توزيع هذه المواد على نحو دعم الخمول والاتكالية ورسخ في عقولهم أعطيات الدولة وصارت معيلهم وأغنتهم عن البحث عن العمل، وظل نهج العطايا ذلك وافرا ومستمرا، لأن الدولة كانت تستقبل منه الكثير. وكان الشعب قليلا. لم تقوم الدولة بخطة مصاحبة ومثمنة لهذا الدعم مثل إعطائه مقابل انجاز عمل ما، وقد زاد من رعونة الوضع أن أي برامج بشأن التوقيف وتغيير العقليات ودعم روح العمل ونبذ قيم البداوة لم تسع له الدولة، لا في حملات التوعية المدنية ولا الثقافية ولا في دعم وتطوير الاندية الثقافية والفكرية أو المسرح ولا في نشاط الشباب. وكان الشيء الوحيد الذي يأخذ طابعا تعبويا أو فكريا هو التنظيمات السياسية. وكانت محظورة ومجابهة من طرف الدولة على نحو مرعب سوى تلك التي تمجد الرئيس وحزب الشعب بلغة غير متنورة في الأساس. ليست هناك توجهات كبرى يعتبر الشعب أنه معني بها أو أنه جزء منها، فقد ابتلعت الاتكالية والهامشية كل أسس المدنية وافترست الفوضى كل أنماط التنظيم الاداري والعمراني الذي تركه المستعمر، على قلته.
كانت كل القرارات الحاسمة فردية ورهانات شخصية في الغالب. وقد كانت تكلفة ذلك باهظة بالنسبة للبلد خاصة على المستوى السياسي، وذلك لأن الرئيس كان يريد بسط كامل نفوذه على السلطة، وهو في الواقع أمر مبرر في البداية لأجل استباب الأمور في البداية وانفاذ القرارات الوطنية الكبرى وحماية التوجهات العظيمة كانت ضرورية. لم تكن هناك بدايات كبرى ولا واحدة ،وعكسا لذلك ظل المختار ينظر إلى نفسه كذات فعلية للدولة، وقد بدأ بتصفية خصومه السياسيين الذين يعارضون فكرة النمط الرئاسي للحكم مثل المختار ولد يحيى انجاي وسليمان ولد الشيخ سيديّ، ودعم فردانيته عبر عملية تراجع عن مسار تقليدي "ديمقراطي " في تقاسم السلطة والحفاظ على بصيص التوازن داخلها من خلال الهامش الذي كان يملكه النواب والمكتب السياسي للحزب وكذلك الحكومة. لقد تم ذلك الانقلاب سنة 1964 عبر مؤتمر كيهيدي الاستثنائي الذي تم تحويله من مؤتمر للشباب إلى مؤتمر استثنائي للحزب في غياب غالبية أعضاء المكتب السياسي، وذلك للتخلص من الكثيرين منهم على خلفية أزمة ترشيح رئيس جديد للبرلمان بدل سليمان، بعدما كانوا قد أوقعوه في أقلية تفقده شرعية الحكم عقب أزمة البرلمان سنة 1963 التي أراد المختار أن يعزل خلالها سليمان ولد الشيخ سيديّ من رئاسة البرلمان ويستبدله بالشيخ "سعدبوه كان"، وقد انتقد فكرة المؤتمر الاستثنائي من الحضور هيبه ولد همدي وشيخنا ولد محمد لقطف، باعتباره مخالفا لنصوص الحزب وقوانينه الداخلية .
كان الشيء الوحيد الذي يعرف نشاطا وفاعلية قصوى هو العمل السياسي لأنه بلا تكلفة خاصة في كفة النظام، ولأنه الطريق القصير للنفوذ والقوة في البلد حتى بين الذين لم يحصلوا على حظ وافر من التعليم الذي يكفي معه رافعة اجتماعية ومستوى متوسط من "الرطانة" ليس إلا، لكي يصبح من المحظوظين. ليس هذا وحده مظهر الفلاح بالنسبة للسلطة، لكن أيضا بالنسبة للشعب، وقد تحول ذلك إلى عادة سيئة تجذرت في المجتمع من الميوعة والابتذال في دعم السلطة. كان في الجانب المقابل تضحيات جسام وتثويب لقلوب الشباب وهممه، وكان هناك نماذج تقدح من عظيم تصميم الرجال وركوب المخاطر وتبديل حياة "الدعة" إلى التشريد. كان وضع متقد بالنسبة للنشاط السياسي العام في البلد، لكنه ليس من تأثير إيديولوجيا وطنية والشراكة السياسية نحو أهداف البناء، بل من خلال التثاقف وامتصاص الايديولوجيا الخارجية التي حوّلت موريتانيا إلى ناقلة الانتاج الفكري العالمي إلى شعبها (القومية والاسلاموية والاشتراكية والشيوعية). كان التيار الكبير الذي يمد حياتنا السياسية بالحيوية يأتي عبر الخارج، فقد انهمك المختار في رهانات عدم الانحياز وتصفية الاستعمار من إفريقيا والقضية الفلسطينية وغيرها من الرهانات الخارجية التي أخذت أغلب وقته، إضافة إلى الصراعات الداخلية. ولم يستثمر في بناء الإنسان على المستويين الثقافي والمهني، ولم تقم الدولة بتربية أجيال وفق مفهومها، وظلت سياسية التعليم تتأرجح بين إصلاح وإصلاح مضاد، وتعكس الصراع السياسي المفتعل للهوية الذي تديره سفارة فرنسا في نواكشوط ….
يتواصل

الاعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار