الخميس
2024/04/18
آخر تحديث
الخميس 18 أبريل 2024

قصة قصيرة جدا: دمعة على شاطئ ميت

5 دجمبر 2019 الساعة 22 و30 دقيقة
قصة قصيرة جدا: دمعة على شاطئ ميت
طباعة

لم يكن هناك أي شيء يوحي بأن المدينة الميتة كانت في يوم من الأيام تنبض بالحياة، فكل شيء فيها كان كئيبا، شاحبا، بائسا: الشاطئ، أطلال الميناء، الشوارع المتقعرة، المباني المتهالكة، هياكل السفن الجاثمة على رمال الشاطئ، حتى البحر بدا في ذلك اليوم منهارا شاحب اللون وكأنه يعاني من مرض مزمن قاتل.

يقول الرجال الكبار في المدينة الميتة بأنها كانت في يوم من الأيام تنبض بالحياة، وكانت قبلة لكل الناس، خاصة الشباب الذين كانوا يأتونها من كل فج عميق بحثا عن عمل شريف يوفر لهم دخلا معتبرا لا يجدوه في أي مدينة أخرى.
ويقول الرجال الكبار بأن المدينة كانت سخية وكريمة جدا مع كل القادمين إليها من شتى بقاع الوطن، وكانت في كل عام تودع آلاف العمال، وتوزع عليهم من كنوزها أموالا طائلة، وترسل معهم آلاف الهدايا لآلاف الأسر، وذلك قبل أن يعودوا إليها مرة أخرى، ليزاولوا أعمالهم من جديد، في انتظار عطلة سنوية جديدة.
في ذلك الزمن الجميل، كان كل شيء في المدينة ينبض بالحياة: شوارعها، شواطئها، زوارقها، سفنها، مصانعها، منازلها، وظل ذلك هو حالها إلى أن زارها ذات يوم مشهود قوم من ياجوج وماجوج فنهبوا كل شيء فيها وتركوها خاوية على عروشها.
في الساعة الحادية عشر من صبيحة يوم الأحد 26 يونيو من العام 2040 ميلادي، كان شيخ عجوز يسير على شاطئ المدينة الميتة، رفقة حفيده الصغير. ولقد قدم هذا الشيخ إلى المدينة الميتة منذ أربع سنوات، جاءها في هجرة معاكسة، وكان هذا الشيخ يختلف عن كل سكان المدينة الميتة، فهو لم يكن فقيرا، لذلك فقد شكل قدومه لغزا محيرا للجميع. ومنذ قدومه إلى المدينة كان الشيخ يخرج في مثل هذا اليوم من كل عام، رفقة حفيده، إلى الشاطئ مما زاد من استغراب ودهشة القلة الباقية في المدينة الميتة، والتي كانت تتفق على أن وراء هذا الشيخ سرا كبيرا، وإن كان الجميع يختلف حول طبيعة ذلك السر.
قطع الحفيد الصمت الرهيب وقال مخاطبا جده:
ـ لماذا تصر يا جدي على أن تزور هذا الشاطئ البائس في كل عام ؟ وما سر 26 يونيو الذي تختاره دائما كتاريخ لهذه الزيارة؟
كان هذا هو العام الرابع الذي يطرح فيه الحفيد هذا السؤال، وكانت هذه أيضا هي المرة الرابعة التي يجيب فيها الجد بصمت رهيب وبنظرة مكسورة.
خيم الصمت من جديد، قطعه الحفيد بسؤال آخر:
ـ هل صحيح أنه كان في هذا البحر سمك كثير؟
ـ صحيح، أجاب الجد بصوت مبحوح.
ـ وأين اختفى السمك ؟
لم يجب الجد.
ـ ألم تكن وزيرا للصيد؟
بلى لقد كنت وزيرا للصيد ..لكن أرجوك دع عنك هذه الأسئلة.
كانت كلمات الحفيد كأنها إبر "صينية" يوخزها في قلب جده.
ومع ذلك فقد أصر الحفيد على أن يكشف سر جده في ذلك اليوم.
ـ إن الناس هنا تقول كلاما كثيرا، لذلك فلابد أن تخبرني بالحقيقة، كل الحقيقة، في هذا اليوم.
ـ في مثل هذا اليوم يا ولدي من العام 2011 نظمت مجموعة من الناشطين في الحملة الوطنية لإنقاذ الثروة السمكية وقفة احتجاجية للمطالبة بإلغاء اتفاقية مع شركة صينية كانت هي السبب في هذا الخراب الذي تراه.
كان عليَّ يا ولدي أن أتبرأ من تلك الاتفاقية، وأن أستقيل في ذلك اليوم، ولكني لم أفعل.
سكت الجد لحظة بدت وكأنها دهرا ثم أردف قائلا:
ـ أرجوك أن تسامحني يا ولدي.
ـ بالتأكيد أنا أسامحك يا جدي، ولكن هل تعتقد أن الشعب سيسامحك؟
لم يجب الجد إلا بدمعة سقطت بلا استئذان على لحيته البيضاء، وكانت تلك الدمعة هي الشيء الوحيد الذي تحرك في ذلك اليوم على الشاطئ الميت منذ أربع سنوات.
ـــــــــــــــــ
*هذه قصة قصيرة جدا كنتُ قد كتبتها بعد أن شاركتُ مع مجموعة من النشطاء في وقفة أمام وزارة الصيد للمطالبة بإلغاء اتفاقية الصيد مع الشركة الصينية، وكان ذلك في يوم 27 يونيو 2011 . أعيد نشر القصة بمناسبة تجدد الحديث عن هذه الاتفاقية المجحفة.