الخميس
2024/03/28
آخر تحديث
الخميس 28 مارس 2024

أضواء على مختارات من الشعر الحموي( قصيدة الليالي العوالي - للمرابط الحاجي نموذجا)

11 يناير 2020 الساعة 12 و33 دقيقة
أضواء على مختارات من الشعر الحموي( قصيدة الليالي (...)
طباعة

لم يكن من السهل تصور قيام تجربة شعرية غارقة في العرفان و المعاني الإلهية ، كتجربة العارف
و العلامة محمد محمود ولد احمد طالب ، المعروف علما ب ( المرابط الحاجي ) نسبة لقبيلته ادو الحاج .
ففي ظل الثقافة الشعرية الموريتانية ( الشنقيطية) التي ظلت تحتفي بالمشاكلات مع الأنماط الشعرية المولعة بوصف الناقة و رسوم الاطلال
و محاسن المحبوبة ،
و احيانا بالمدائح و التفنن في المبالغات لدرجة مجاراة النابغة و امرئ القيس و الاعشى
و ذي الرمة ،
تجددت على يد المرابط الحاجي و شعراء الحموية
طفرة شعرية غير مألوفة
و أساليب إبداعية لم تكن مطروقة في تاريخ الشعر العربي بعد ابن الفارض
و الحلاج و السهروردي
و ذي النون المصري
و غيرهم من كبار الأولياء العارفين ،
لقد شكلت الشاعرية الحموية تجديدا في العواطف و المشاعر
و كثفت الصور و الاسرار
الشعرية ، و ارتقت بالذائقة الفنية الى مقامات من السمو و التعلق بالحقيقة
و المعاني الالهية ،
لقد كان الشعر الحموي في جماليته و تشويقه ، احتفالا مستمرا و خالدا بالله و رسوله و اوليائه الغارقين في بحر الذات
و معاني الألوهية ،
متمثلين ذلك في قطب الوقت و نقطة دائرة الولاية المحمدية في عصرهم ، الشريف الوارث لاسرار النبوة و متعلقات الوسيلة : حمى الله بن محمد بن سيدنا عمر ، التيشيتي ، ( توطن بلاد السودان - جمهورية مالي - في بداية القرن العشرين )
و قد كان ظهوره البارز ايذانا ببداية انكشاف المعارف الإلهية و خروجها عن دائرة الاحتكار
و تتويجا لترسيم طريق الحق في السير إلى الله جل جلاله و تعالت عظمته ، بدون ارتباط بمقتضيات مطالب الدنيا الفانية و ما كان سائدا من اتخاذ الطرق وسيلةللمغانم و الوجاهة الاجتماعية ..

كان الشعر الحموي هو الذي سجل هذا التحول الذي طرأ على الساحة الدينية و المسألة الثقافية في ظل دعاية مغرضة قامت بها جهات استعمارية و تداخلات دينية و قبلية ،

و يعتبر المرابط الحاجي واقعيا و عرفانيا هو رائد المدرسة الحموية في الشعر العرفاني ، حتى أن صاحب كتاب الياقوت
و المرجان ، مع إشارته لذلك اعرض عن إيراد بعض أشعاره ، خوفا من فهمها على غير وجهها الحقيقي ، و اكتفى الشريف ولد معاذ مع التأسف بهذه القصيدة ،
و نوه بأن ذلك على سبيل التبرك بصاحبها و بها ،
و هو ما نفهم منه عمق حالة الجذب و تنوع الاشواق عند المرابط الحاجي ، رغم وجود مفارقة لا تخلو من معنى ، حيث ثبت أنه مع درجة جذبه و انغماسه في بحر الحقيقة ، كان في الزاوية الحموية هو صاحب التدريس و الفقيه و المعلم بعد التغريب الذي تعرض له الشيخ على يد المستعمر ، و قد أورد مجمع البابطين على موقعه بالكويت في ترجمته له هذه القصة مع مقتطفات من قصيدته و قصيدة العارف محمد الامين ولد الطالب ولد اخطور ،
و هذا ما يجعل المتابع و الناقد للمرابط الحاجي في حيرة من علو مقامه الروحي ، فلم تمنع الشدة حال الجذب من الصحو
و التدريس و المذكرات المعرفية ،
و هذه القضية تبرز ايضا في نظمه لهذه القصيدة في بحر المجتث الذي هو من بحور الطرب و الغناء ، في الوقت الذي تعبر القصيدة في معناها عن عوالم متنوعة من الوجد
و اللوعة و التحرق ، على فراق الشيخ و تلامذته
و ليالي المسامرة الروحية التي لا يمكن وصفها ،
و ما يرمز له ذلك من سر الدائرة في الفكر الصوفي حيث نهاية اللوعة هي بداية الطرب ،

لتتأكد تلك الرمزية في بعض آبياته التي تصف علوم الشيخ و سعتها العميقة :

علومه مبتداها :: من انتهاء المقال ..

من الرسول و لا ذا :: إن قلته بمحال ..

إلى أن يقول :

يارب صل على من :: بالسجن لابنه صال ::

يملي عليه علوما ::
و مخبرا بأحول ::

إن الأهمية الشعرية
و المعرفية لقصيدة الليالي العوالي ، لا يتأتى الخوض فيها في كثير من مستويات الخطاب النقدي المتاح للجميع نظرا لما تضمنت من معارف و معاني في غاية الخصوصية ،
و لكننا نورد مختطفات منها لإطلاع المهتمين بالشعر العرفاني ، كنموذج لعيون الشعر الحموي الذي يرقى بالذوق الجمالي
و النشوة الشعرية غير عابئ بالشكليات و تقييد القوافي ، و كأن غزارة المعاني أغنت عن الاعتناء بالاطر التقليدية و ابجديات القافية و الاوزان ، و ما يرمز له ذلك من ظاهرية عقيمة روحيا ؛
اشكو انفصال اتصال :: مع الليالي العوالي ::

ليالي كنت اراها :: محفوفة بآمال ::

ليالي كنت أراها ::
بالشيخ ذات وصال ::

و الشيخ فيهاإمام ::
إمام كل الرجال ::

إمام كل إمام ::
و خلفه كل عال ::

و يتابع المرابط في وصفه للشيخ إلى درجة الغاية
و قمة النشوة الروحية ؛

اوصاف جد عليه ::
مرسومة في خيال ::

خياله في خيال ::
يحوي جميع الخيال ::

و ذاك أمر عسير ::
على فحول الرجال ::

إلى أن يقول :

من الرجال رجال ::
على جمال الجلال

و منهم ذو جمال ::
و منهم ذو جلال ::

و جامع لسناهم ::
خليفة المتعال ::

و ذاك شيخي إمامي ::
حمايتي و آمالي ::

الى ان يقول :

و اجعلني فيه بكلي ::
على كمال الوصال ::

مستغرقا بجميعي ::
مستفرغا من وحالي ::

الى أن يقول :

مالي و لليالي ::
جاءت بقطع بوصال ؟ ::

و مهما يكن فإن اشعار المرابط الحاجي ، ستبقى رمزا الشاعرية الحموية
و عمق معرفتها. .

مقتطف من مقالة نقدية للكاتب ..

صالح محمد علي ..