الخميس
2024/04/18
آخر تحديث
الخميس 18 أبريل 2024

المقاومة المسلحة في موريتانيا / المراحل والأحداث

29 دجمبر 2018 الساعة 11 و06 دقيقة
المقاومة المسلحة في موريتانيا / المراحل والأحداث
طباعة

إذا اعتبرنا المقاومة هي الرفض بدون أن نعطي لذلك الرفض وصفا؛ فإن موريتانيا عرفت مقاومة المستعمر منذ أن وطأت أقدامه هذه الأرض؛ ففي منتصف القرن 15م عندما أسس البرتغاليون مخزنا للبضائع في وادان كان العداء الذي يكنه ساكنة المنطقة سببا في ذبول هذا المركز. كما أن الحرب التي قامت بين الأمير أعمر ولد المختار والفرنسيين من أجل إفشال مشروع الاستعمار الزراعي والدفاع عن النفوذ السياسي لإمارة الترارزة وتأكيد السيادة التروزية على "دكانة" مركز المستعمرة الزراعية ليس إلا نوعا من المقاومة. ويدخل في ذات الإطار حرب الزواج بين الأمير محمد الحبيب وفديرب؛ فهذه الحرب، تدل على رفض سياسة الرجل الأبيض وتوسعه، هذا في حالة ما إذا كانت المقاومة رفضا لما يرى الرافض سببا له ( أي الرفض).

أما إذا اعتبرنا الرفض مقاومة بل جهادا ونعتت هذه المقاومة بوصف أي أصبحت المقاومة توصف بالعسكرية أو الثقافية، فإن موريتانيا مثلها مثل غيرها من دول العالم المحتلة عرفت مقاومة المستعمر اتسعت حتى عمت جميع المناطق الموريتانية، مهددة بذلك الوجود الاستعماري الفرنسي في المنطقة. وعليه، فإن المقاومة الموريتانية قد مرت بثلاث مراحل لكل مرحلة منها سمتها وظروفها الخاصة بها، فكانت المرحلة الأولى تلك التي تبدأ من 1903 حتى 1909. وهي مرحلة يمكن تقسيمها بدورها إلى مرحلتين مختلفتين من حيث الأسلوب وطرق التنفيذ، وإن كانتا تتفقان من حيث الهدف، فكانت الأولى تلك التي يطلق عليها الاحتلال السلمي، وهي فترة كبولاني وخلفه مونتانيه كابديبوسك Montané Capdebosc وهي مرحلة لم تتسم بالسلمية في أية خطوة من خطواتها. وهي سلمية يعللها بعضهم بالدعم الذي قدمه بعض شيوخ القبائل ، ذلك الدعم الذي ذلل بعض الصعاب في تنفيذ الخطوة الأولى والثانية من تنفيذ مشروع كبولاني هذا من جهة ، ومن جهة ثانية تفادي الاصطدام بادوعيش عند فم البطحة حيث كانوا مرابطين في انتظار قدوم كبولاني، وهو لا يبرهن على السلمية وإنما يعبر عن الخوف من الخصم، علما بأن كبولاني ما كان يخشى سوى ادوعيش وأعد لذلك العدة في بداية تقدمه وتحضيره لتنفيذ مشروع احتلال موريتانيا. ومما يؤكد عدم سلمية هذه المرحلة تكليف كبولاني لأحد أشرس ضباطه بمطاردة ادوعيش و إرغامهم على إخلاء طريق المؤن وهي المطاردة التي على إثرها جاء استشهاد الأمير بكار ولد اسويد أحمد بعد مباغتته في قرية بوكادوم في 1 ابريل 1905.

وقد عرفت هذه المرحلة بعض الأحداث أثرت، بشكل مباشر، على السياسة التوسعية الفرنسية في موريتانيا، فكانت أهمها: عملية تجكجة في 12 مايو 1905، تلك العملية التي تعد فريدة من نوعها إذا ما قيست بمثيلاتها اليوم، عملية من الطراز الثقيل: تنفيذا ونتيجة؛ فمن حيث التنفيذ تمكن رجال لا علاقة لهم بالخطط الحربية من دخول ثكنة عسكرية حيث يوجد القائد، ومن حيث النتيجة تمكن هؤلاء الرجال من قتل قائد الجيش والمنظر الاستعماري الفرنسي. عملية، كما قلنا من الطراز الثقيل؛ لأنها، أيضا، أربكت الفرنسيين، ليدخلوا في جدلية: استمرار أم توقف الزحف؟ وهو ارتباك أفضي بالفرنسيين إلى إتباع سياسة الحفاظ على الموجود والتحول من سياسة الهجوم إلى سياسة الدفاع وهي السياسة التي كلف المفوض مونتانييه كابديبوسك بتنفيذها.

ومن تلك الأحداث عملية النيملان التي تعد من بين أهم العمليات التي تخللت المرحلة الأولى من المقاومة. وقد يكون لذلك ما يبرره إذا علمنا أن سنة 1906 مثلت بوصول مولاي إدريس إلى المنطقة نهاية الهدوء الذي عرفته المنطقة بعد مقتل كبولاني واتباع فرنسا سياسة التهدئة. ففي 24 أكتوبر تمت معركة النيملان وفي26 من ذات الشهر كان حصار تجكجة.

هذه الأحداث المتتالية والمتلاحقة جعلت فرنسا تدرك أن احتلال آدرار أصبح مسألة حياة أو موت بالنسبة لها وعدم احتلاله يمثل خطرا على الوجود الفرنسي لا في منطقة الوسط الموريتاني تكانت فحسب، وإنما في منطقة الشمال الإفريقي. الشيء الذي جعل فرنسا تغير من سياستها تجاه موريتانيا وتجعل من احتلالها هدفا مصيريا؛ ليعين غورو مفوضا عاما لموريتانيا سنة 1907، ويكلف بتنفيذ الخطوة الثانية من مرحلة المقاومة الأولى. وهي خطوة تختلف من حيث الشكل والمضمون عن الخطوة الأولى من ذات المرحلة. لتأكيد المفوض الجديد ضرورة احتلال آدرار، كتب الحاكم العام لغرب إفريقيا وليام بونتي Ponty في يونيو 1908 إلى وزير المستعمرات الفرنسي يقول: "إن احتلال آدرار أصبح هدفا استراتيجيا لإعادة الأمن و السلام إلى شبه المنطقة". وهو الموقف ذاته الذي تبناه وزير المستعمرات الفرنسي لاكروا حيث قال: "إن إمارة آدرار هي القاعدة الخلفية لكل المحاربين المنادين بالجهاد المقدس، وباختصار، فإن وجودنا في إفريقيا الشمالية وربما العربية يظل بعيد المنال ما لم تتم السيطرة على منطقة آدرار".

في الوقت الذي كانت فيه الإدارة الاستعمارية الفرنسية تضع اللمسات الأخيرة وبسرية كاملة على إعداد حملة احتلال آدرار، كان الشيح حسنه ولد الشيخ ماء العينين يؤطر ويقود العمليات ضد الحاميات الفرنسية الموجودة في منطقة انشيري؛ فكان من نتائج ذلك معركة أعقيلت الخشبة أو أكجوجت في 16 مارس 1908 وفي إبريل من ذات السنة تم اعتراض قافلة تموين والاستيلاء عليها، وفي شهر مايو 1908 سيطر المقاومون على خطوط الإمداد المتجهة إلى قلعة اكجوجت، لتصبح أمام حصار حقيقي مفروض وتحت ضغط تهديدات الشيخ حسنه فرض على الفرنسيين الانسحاب من الموقع في نهاية المطاف.

وفي 13-14 يونيو 1908، وفي واحة المينان اعترض المقاومون حامية فرنسية بقيادة النقيب مانجيه Mangin كانت في طريقها إلى المجرية، وهي معركة لا تقل أهمية عن سابقاتها ولا اللاحقة عليها فقد أسفرت عن مقتل قائد الحامية ومساعده ومعظم أفراد الفرقة. وقد تعددت المعارك في الفترة من 16 مايو 1908 وحتى 6 دجمبر من ذات السنة؛ لتصل 125 هجوما أحرز المقاومون النصر في معظمها.

هذه العمليات والحوادث اعتبرها غورو سببا يدفعه إلى الإسراع بالحملة والسيطرة على منطقة الشمال "آدرار"، لتلقي العناصر المكونة للحملة في 22 دجمبر 1908 عند أوجفت، وفي 25 من ذات الشهر وفي شمط سقطت فرقة بقيادة الرقيب الجزائري جيلالي في كمين للمقاومين قتل خلاله جميع أفراد الفرقة، وفي 30 من الشهر ذاته أغار المقاومون على الفرقة المتحصنة في أماطيل جرح خلالها النقيب بابلون، لكن مع ذلك تسللت الحملة عبر وادي سكليل لتصل في 8 من يناير 1909 ممر حمدون حيث اشتبكت مع رجال المقاومة بقيادة الشيخ حسنه، وفي 9 من ذات الشهر تمكن غورو من دخول أطار. وفي 28 ابريل 1909 تعرضت حامية فرنسية في " غسرم " لهجوم رجال من المقاومة قادمين من السمارة جرح خلاله بابلون قائد الحامية جرحا قاتلا، وهو هجوم يعتبر من بين أهم الأحداث التي أثرت على حملة غورو، حيث قتل فيه أحد أقوى مساعدي غورو.

المرحلة الثانية للمقاومة و هي التي تبدأ من 1910 إلى غاية 1914، لقد شهدت السنوات الأولى من هذه المرحلة عدم استقرار نسبي، سواء كان ذلك في الترارزة أو العصابة أو تكانت أو آدرار، فقد ظلت الوحدات الفرنسية في جميع هذه المناطق عرضة لهجمات المقاومة وجولاتها. وإن كان الحدث الأبرز والمهم ذلك الذي وقع في مايو 1911، تعرضت خلاله حامية العصابة لهجوم تم خلاله قتل الملازم دماسي والعديد من أفراد فرقته، كما شهدت ذات السنة دخول رجال المقاومة منطقة الحوض التي لم يكن الفرنسيون قد دخلوها أو احتلوها إلى ذلك الحين، بل تعدوا ذلك حتى وصلوا إلى منطقة أزواد، وهذا يعني أن المقاومة شملت جميع مناطق الوطن.

أمام هذا النشاط المتزايد لحركة المقاومة كان، لا بد لفرنسا أن تضع حدا لذلك النشاط، ليتم التنسيق بين الوحدات الفرنسية الموجودة في موريتانيا وتلك التي في السودان الفرنسي لاحتلال ولاتة وتيشيت، حيث أصبحت كل منهما مكان استراحة رجال المقاومة وتموينها. بيد أن سنة 1912 تميزت بحدث أثر، وبشكل مباشر، على المقاومة، ففي 11 يناير 1912 نظم الفرنسيون حملة لاحتلال تيشيت انتهت بعد تحقيق الهدف بأسر الأمير ولد عيده واستشهاد اثنين من أقوى رجال المقاومة عزما وتدبيرا( ولد مكي، ولد فيدار).

وفي 10 يناير 1913 أشرف الشيخ محمد الأقظف على تنظيم كتيبة قادها كل من محمد ولد المعيوف ومحمد ولد الخليل ولد الدخيل قامت بالهجوم على القاعدة الفرنسية في منطقة لبيرات كان الانتصار فيها مدويا في الأوساط المحلية والفرنسية على حد سواء، فقد ذكرت فرنسا بمأساة يونيو 1908 التي قتل خلالها النقيب مانجيه وجميع أفراد فرقته، كما تناول الإعلام الفرنسي الحدث باعتباره انتقاما لأسر الأمير ولد عيده خلال حملة تيشيت سنة 1912.

ان انتصار لبيرات جعل بعض القبائل تقتنع بضرورة مآزرة إخوتهم الرابضين في جبهات القتال ضد الغزو الفرنسي (النصارى)، الشيء الذي يعبر عن تنامي الوعي القبلي لدى هذه القبائل. هذا الوعي المتزايد والانتصارات المتلاحقة جعلت فرنسا تتبع نهجا جديدا في التعامل مع القبائل الموريتانية، وهو النهج الذي سينفذه الحاكم الجديد موريه.

المرحلة الثالثة وتبدأ من 1914 إلى غاية 1934، وقد امتازت بداية هذه المرحلة بتزامنها مع قيام الحرب العالمية الأولى 1914-1918، التي من المفروض أن تكون حافلة بالانتصارات بالنسبة للمقاومة، حيث كانت فرنسا منشغلة في الحرب وسيرت معظم جنودها إلى ميدان الحرب، بل العكس، فقد شهدت الساحة الموريتانية خلال الحرب هدوءا نسبيا مرده لأسباب مجتمعة سياسة الترغيب والترهيب التي اتبعتها فرنسا بعد حادثة لبيرات، سياسة فرق تسد وإثارة النعرات بين القبائل إضافة إلى الجفاف الذي ضرب المنطقة في تلك الفترة. لكن مع ذلك شهدت الفترة من 1916 حتى 1922 بعض المناوشات، تبادل فيها رجال المقاومة والفرنسيون النصر والهزيمة مهددة بذلك الأمن والاستقرار في عموم البلاد.

اعتقد الفرنسيون أن الأمر قد استقر لهم في موريتانيا وأن آخر مرحلة من مراحل المقاومة قد انتهت، لكن الواقع كان عكس ذلك، حيث بدأت مرحلة جديدة تتبلور وذلك بظهور محمد تقي الله (وجاهه) الذي وصفه الفرنسيون بالمحارب المتميز لتعرف الفترة من 1923 وحتى 1925 انتعاشا للمقاومة ، ففي 28 نوفمبر 1923 قاد وجاهه هجوما مباغتا على فرقة فرنسية في اشريريك بقيادة الملازم بردين كان من نتائجها قتل القائد ومعظم أفراد الفرقة. وقد لاحظ الفرنسيون أن أسلوب هذه المعركة اختلف عن الأساليب السابقة التي اعتادها رجال المقاومة ، كما أنها أظهرت للفرنسيين قدرة رجال المقاومة على المناورة والتخطيط الذي يعتمد عنصر المفاجأة وسرعة التحرك.

ورغبة منه في إحراز آخر نصر قاد وجاهه في 26 مارس 1924 هجوما على الفرقة الفرنسية المتمركزة في انواذيبو، لكن الروح القتالية الانتقامية الفرنسية منعت وجاهه من تحقيق هدفه، ليعيد الكرة في 5 مايو 1925 في منطقة بوقرن حيث وقعت معركة بين رجال المقاومة والقوات الفرنسية، وعلى الرغم من الانتصار الذي حققه رجال المقاومة والارتباك المعنوي الذي أصاب الفرنسيين، فإن خسارة رجال المقاومة لا تعوض؛ إذ توفي وجاهه متأثرا بالجرح الذي أصابه خلال المعركة. لكن ذلك لم يثن رجال المقاومة عن متابعة عملهم، ففي 23 أكتوبر 1924 عند منطقة لكديم في وادان هاجم رجال المقاومة فرقة فرنسية، وبروح قتالية عالية وخلال جولتين تمكن رجال المقاومة من الانتصار. وتعتبر معركة لكديم انتقاما مباشرا من الفرنسيين لاستشهاد المقاوم وجاهه، خاصة وأن من قادتها أحمد ولد كركوب أحد الأصدقاء المقربين من وجاهه، كما أن الجماعة التي نفذتها كلهم من تلاميذ الشيخ الولي ولد الشيخ ماء العينين.

وفي 3 من ابريل 1925 كانت معركة الطريفيات، تلك المعركة التي تعتبر من أشد المعارك التي خاضها الفرنسيون في محاولتهم احتلال شمال إفريقيا بل وإفريقيا كلها؛ فقد امتازت بأنها أمضت ثلاثة أيام بلياليها لا يستنشق الفرنسيون خلالها سوى دخان المدافع، كما أن رجال المقاومة كانوا مصرين على قتل ما يرون أنه يعادل قائدهم محمد عبد الله ولد عبد الوهاب الذي استشهد خلال المعركة ، حتى أقسموا على أنفسهم بأن لا يولوا الأدبار ما داموا أحياء حتى يلحقوا بالفرنسيين أكبر هزيمة. وهي، وإن كانت قد عرفت استشهاد قائد رجال المقاومة، فإنها قد عرفت أيضا قتل قائد فرقة الجمالة والعديد من أفراد فرقته. وفي يوليو 1925 يطل علينا محمد المامون شقيق وجاهة بهجوم على فيلق الجمالين المكون، أساسا، من المجندين الموريتانيين، فقتل قائد الفيلق وعدد كبير من مجنديه.

ومن سنة 1925 إلى غاية 1930 شهدت موريتانيا هدوءا حذرا تخللته هجمات من هنا وهناك بعضها كان من الممكن أن يصبح خطيرا لو استمر. لكن سنة 1931 كانت مغايرة للسنوات التي سبقتها، فمن سبتمبر 1931 إلى غاية أكتوبر 1932 شن رجال المقاومة 13 هجوما في كافة أرجاء البلاد، مما أثار قلق السلطات الفرنسية حيث شاركت فرق الهجانة الموريتانية الأربع: شنقيط، أطار، تشيت واكجوجت، في عمليات الدفاع والتصدي لرجال المقاومة وبمساعدة كاملة من فرقتي هجانة الحوضين وتاودني. وقد اعترف الفرنسيون أنهم خسروا خلال الفترة من 1 سبتمبر 1931 إلى 1 سبتمبر 1932، 25% من ضباطهم و 35% من ضباط الصف و 20% من الرماة السنغاليين و 12% من الحرس الموريتانيين.

وقد امتازت بقية هذه المرحلة بظهور عمليات كبيرة فاجأت الفرنسيين الذين تخوفوا من أن تكون بداية لانبعاث جديد، وازداد الوضع خطورة عندما اتحد أحمد ولد حمادي مع محمد المأمون ولد الشيخ محمد فاضل ولد أعبيدي. وقد بدأت هذه العمليات بمعركة توجنين في 7 سبتمبر 1932 حيث اشتبك رجال المقاومة بقيادة أحمد ولد حمادي مع حاميتها وكبدتها خسائر فادحة، وتعتبر عملية توجنين أول حادث خطير بعد 6 سنوات من الهدوء الحذر منذ معركة الطريفيات.

وبعد إعلان محمد المأمون الحرب المقدسة في الشمال لاحظت السلطات الفرنسية أن تصرفات الأمير سيدي أحمد ولد عيده توحي عن قرب اتخاذ موقف جديد معاد للفرنسيين، مفسرين ذلك بنقل مخيمه جهة الشمال، مقتربا من معاقل المقاومة، فتيقنت من أن ذلك تعبير واضح عن تبني دعوة محمد المأمون للحرب المقدسة، فأرادت السلطات الفرنسية أن تثنيه عن ذلك، ليرسل له القائد العام لمنطقة آدرار يطلب منه الاتجاه فورا إلى أطار، فأدركه الرسول بعد صدور القرار بالقبض عليه، لكن الأمير قتل الملازم ميسات ومن معه؛ ليكون ذلك بداية مطاردة الأمير، ليلتقي الجمعان عند وديان الخروب حيث دارت معركة ضارية قادها النقيب لكوك بعناد غريب مدفوعا برغبة حب الانتقام وعدم القدرة على تقبل الهزيمة؛ لتنتهي المعركة باستشهاد الأمير سيدي أحمد ولد عيده واستسلام بقية مقاتليه، فمثل ذلك مأساة للموريتانيين، لكن الشيء الذي لا جدال فيه أن الأمير ولد عيده كان مجاهدا ومقاوما ضد الاستعمار الفرنسي يستحق أن يسجل له ذلك بكل فخر واعتزاز، مثله مثل غيره من من استشهدوا في الميدان أو قادوا المعارك ضد المستعمر سواء هزموه أو كبدوه خسائر أو هددوا أمنه، فهذا كله انجاز يذكر لصاحبه ويشكر عليه.

بيد أن استشهاد الأمير ولد عيده لم يكن يعني غياب الخطر بل العكس، فقد ازدادت الأوضاع تفاقما والنفق الموريتاني ظلمة، فالوضع العسكري الفرنسي مضطرب، فلم يعد عند الفرنسيين ما يقابلوا به هجوما انتقاميا منتظرا؛ لأن هجانة أطار تمت إعادة تنظيمها بعد هزيمة توجنين بصعوبة، كما أنه لم يعد مأمونا الاعتماد على أنصار الأمير ولد عيده وأقاربه بعد حادثة وديان الخروب، أما هجانة شنقيط، فقد فقدت عنصر المناورة وسرعة التحرك بسبب إجهاد الجمال في عملية تعقب الأمير ولد عيده، فأصبحت قوة دفاعية أكثر منها هجومية.

ورغم الإجراءات التي اتخذتها السلطات الفرنسية، تحسبا لردة فعل رجال المقاومة؛ فإن ذلك لم يمنع من وقوع بعض الهجمات، ففي 18 أغسطس 1932 هاجم رجال المقاومة فرقة هجانة الترارزة في منطقة أم التونسي، ليتم القضاء نهائيا على الفرقة وقتل قائدها. وقد أحدثت هذه العملية دويا كبيرا في العاصمة الفرنسية. وتحت تأثير الهزيمة حصلت السلطات الفرنسية على معلومة تخبر عن تجمع رجال المقاومة في بلدة ميجيك بالقرب من كدية الجل، فأرادت أن تستثمر ذلك الخبر وتنتقم لهزيمة أم التونسي، ليكون ذلك في 31 يناير 1933 استشهد خلاله المقاوم المجاهد أعلي ولد مياره. وكانت هذه المعركة فاتحة عهد جديد: نهاية الاشتباك المباشر بين رجال المقاومة والقوات الفرنسية، وبداية إعلان القبائل المناهضة للاستعمار الفرنسي المكاتبة للإدارة الاستعمارية، ليسدل الستار على آخر مظاهر المقاومة الوطنية.

بعض الملاحظات حول المقاومة

1- لقد أقر الفرنسيون بحقيقة لا جدال فيها، هي: أنه لم يمض عليهم يوم واحد إلا وطالعتهم أخبار المقاومة بمزيد من العمليات والاستفزازات لقوتهم العسكرية والمعنوية في الشمال إن لم نقل عموم البلاد؛

2- أن المقاومة عمت جميع مناطق التراب الوطني، فوصلت الحوض الذي لم يكن تعتبره فرنسا وقتها له علاقة بالمناطق الموريتانية الأخرى، مما جعل فرنسا تنسق بين قواتها لاحتلال ولاتة؛

3- إذا كان الشيخ ماء العينين المؤطر الروحي للمقاومة لم يشارك في أية معركة من المعارك العديدة التي خاضها رجال المقاومة، فإن أبناءه قادوا معارك ضارية ضد المستعمر الفرنسي وانتصروا في معظمها وأعطوا دفعا للمقاومين كلما شاركوا في معركة؛

4- إذا كان التوغل الفرنسي قد بدأ بحادث بوكادوم( استشهاد الأمير بكار ولد اسويد أحمد) وانتهى بالنسبة للفرنسيين بحادث وديان الخروب(استشهاد الأمير سيدي أحمد ولد عيده)، فإن كلا الحادثين لم يؤثر على المقاومة، بل استمرت واشتدت حسب الظروف إلى بعد حادث وديان الخروب(ميجك- أم التونسي)؛

5- إذا كان التوغل الفرنسي قد بدأ بحادث بوكادوم وانتهى بالنسبة للفرنسيين بحادث وديان الخروب، فإن المقاومة بدأت بحادث تجكجة وانتهت بحادث أم التونسي، فحادث بوكادوم اقتصر تأثيره إلى حد ما على إدوعيش دون العناصر الأخرى التي تابعت مقاومتها للاستعمار حتى 1934 نهاية المقاومة، أما حادث تجكجة، فقد أربك الفرنسيين الذين أعادوا النظر في سياستهم التوسعية في موريتانيا، لينتهي بهم المطاف إلى إتباع سياسة دفاعية اتسمت بمهادنة القبائل الموريتانية من مايو 1905 حتى دجمبر 1907 أي بداية الحملة العسكرية على آدرار؛

6- أن المعارك التي قام بها رجال المقاومة لو قدر لها تنظيم القيادة وتوحيد الجهود لكانت نتائجها أكثر وأحسن؛

7- ما كان للمقاومة العسكرية أن تقوى وتبقي ثلاثين عاما لولا عون أختها المقاومة الدينية والثقافية التي حافظت على هوية العباد في هذه البلاد؛

9- من النادر أن تستمر الحرب بين الدول القوية ثلاثين عاما، فكيف إذا كانت بين دولة قوية وشعب بدوي لا قائد له ولا رئيس عام ولا عدة ولا عتاد عنده، فالحالة الموريتانية حالة خاصة باعتراف الأعداء قبل الأصدقاء، فالشجاعة البدوية وقوة الإيمان بالله لدى هذا الشعب ما أنكرهما الفرنسيون أبدا.

د. عبد الرحمن ولد عمر