الأربعاء
2024/04/17
آخر تحديث
الأربعاء 17 أبريل 2024

هل عرفتم غزواني؟.. الحلقة الأخيرة / محمد محمود ولد بكار

23 دجمبر 2020 الساعة 09 و29 دقيقة
هل عرفتم غزواني؟.. الحلقة الأخيرة / محمد محمود ولد بكار
طباعة

ذهبت في المقال الماضي إلى أن الهدف المنطقي للديمقراطية هو الذي يجعلنا نمنح غزواني حقه الدستوري والشرعي في ممارسة الحكم على طريقته، فقد تم اختياره في انتخابات مفتوحة لذلك الهدف، وكان تخاذلنا حينها في المعارضة، كما العادة، هو سبب فوزه في الشوط الأول، بالإضافة إلى جاذبيته الشخصية.
ولنفس السبب ـ أعني فشلناـ قد تقع أمور غير مقدر لها أن تحدث في البلد، مثل التغيير الراديكالي. كما أن علينا أن نفهم أن التأجيل المتزايد لتحولات الحياة ليس من اليوم، بل منذ التأسيس، وأن البلد، مثل ما ذهب إليه المفكر محمد يحظيه ولد إبريد الليل، "بُنيّ أعوجَ مثل برج بيزا المائل في إيطاليا"، وليس بإمكاننا أن ننشد إقامة اعوجاج عمره 60 سنة (بالنسبة للدولة وأكثر من ذلك عشرات المرات بالنسبة للمجتمع) في سنة ونصف من حكم غزواني.. ألا ترون أن دائرة أحلامنا واسعة أكثر من المعقول؟.
موجة النقد الحالية، على تفاوت مستوياتها، ليست سيئة، فلكل مواطن الحق في انتقاد رئيس الجمهورية، لكن -بنفس القدر من المشروعية- يجب أن يظل النقد في حدود اللباقة والاحترام. فقد تكشفت هذه الموجة عن مواقف مختلفة يعبر بعضها عن ولع استشرافي، ويعبر بعضها الآخر عن الضغط "الصديق" على غزواني، ويأخذ بعضها الآخر طابع سَورة من الحنق على الوجوم الذي تمثله الحكومة التي تعيش من دون قرارات، والتي بدت ضعيفة الهيبة، بالإضافة إلى توجس الشباب الذي تسيطر على رؤوسه الملتهبة فكرة واحدة وهي الخوف من إحباط حماسهم، الذي يفيض بالملل، للإصلاح. خاصة أن أنظمة الفساد امتصّت رحيق أعمارهم. إنها -ولكي لا نسيئ التأويل ـ جاءت بدافع واحد هو حجم الآمال التي أُطلق لها العنان بعد نجاح ولد الغزواني الذي واجه الأزمة السياسية عكسا لماض سحيق من التهرب وانعدام الثقة، ومنح للجميع التزامات بأنه لن يفعل إلا ما يراه في مصلحة البلد. لقد أعطت علامة الرضى التي كانت مرسومة على باب الرئاسة ماركة الحلم بالتغيير والإصلاح عند الناس، وقد أفعمت تلك الآمال بشحنات كبيرة من الاندفاع والحماس في دعم غزواني من لدن طيف جديد عندما تم فتح ملف التحقيق البرلماني حول التحقيق في فساد العشرية، لكن غزواني لم يصرح بأنه سيحارب الفساد على طريقة أو بحماس داعميه الجدد، الذين دعموه من تلقاء أنفسهم، وبما يدور في نفوسهم قبل التفاهم معه عليه، كما أنه ترك الجميع يمارس مهامه وصلاحيته بما في ذلك البرلمان والقضاء في ضوء إرادة سياسية جديدة بفصل السلطات. وهكذا يتبين أن لا علاقة للجهاز التنفيذي بالتأخر في مجريات الملف .
وهكذا نجد أن الكثير من الذين يصرخون في وجه التأخير ببعض الإجراءات أو بتعيينات خارج دائرة التوقع، إنما بتأثير الرغبة في إرساء الديمقراطية من خلال إعادة توزيع كبير للملكية والمداخيل ،وكذلك الخوف من أن تسيطر نواة النظام القديم على قرار ولد الغزواني من خلال سيطرتها على أذنيه وعينيه ليدير ظهره للإصلاح، في تجاوز واضح لملكات الرجل، وذلك لأن أشخاصا محسوبين على أنظمة سابقة يحظون بالقرب منه لدرجة انهم قادرون على وضع أعوانهم وأصدقائهم في أغلب المواقع ليعود النظام القديم على حالته. ومع أن هذا الموقف ضمن مزاج سياسي يفتقر للتوجيه الصحيح، فإنه لا يخلو من تسرع حيث أقال غوزاني مستشاري عزيز كلهم وأخرجهم من دائرة النفوذ في خطوة كان يخطط لها منذ مدة، وفي سياق لا يخلو من افتئات على غزواني الذي لم يلتزم بتغيير نظامه بقدر ما كان تركيزه على قناعته الشخصية والإرادة السياسية التي يمثلها والتي ستعمل في اتجاه مصلحة البلد حسب تقديره.
لا يمكن تجاهل الأخطاء في الاختيار من داخل النظام الذي لم يكتتب من التيارات الجديدة والشابة والكفاءات الجاهزة رغم أن الوقت لم ينفذ، لكن ليس هناك شك في أن الفساد مرتبط بالإرادة السياسية، وهنا يظهر خطأ آخر فادح في تقييم غزواني، وذلك بسبب تعود الناس على الرجل الذي يركز كل الصلاحيات في يده على حساب الدولة كرأس هرم الاستبداد والتفرد بالحكم، كان محمد ولد عبد العزيز آخر مثال، فقد كان هناك حضور ذاتي قوي وتعليمات صارمة وتدخل في جميع مجريات التسيير والقرارات، لكن كان ذلك على حساب جهاز الدولة وعلى حساب فصل السلطات والعوامل الذاتية للأفراد، وعلى حساب التخطيط ولأهداف النهب في حين يحاول غزواني قلب القاعدة وبناء ديناميكيات مختلفة مرتبطة بدولة المؤسسات وتفعيل والإدارة ومنح الصلاحيات .
لقد كانت دولة الحكامة عاطلة في فترة عزيز، وكانت هناك 5 مؤسسات للرقابة على التسيير، ومع ذلك لم تكن محاربة الفساد معركة وطنية، لكنها كانت حسابات فردية تمثل سوطا يرفع في وجه الكل لتصفية بعض الخصوم، وكان وقودها التضحية ببعض الضعاف لإظهار الصرامة وإحاطة شعارات محاربة الفساد بهالة من الجدية، إلا أن ذلك لم يكن سوى مسلسل من النهب والظلم والشطط ونقض جميع القواعد الجديدة والقديمة وفق هوى الرئيس السابق.
إننا نلاحظ اليوم، ولو بطريقة بطيئة وبعيدا عن الضجيج أو إثارة الانتباه، أن الخطوات نحو التأسيس بالنسبة لفاعلية مؤسسات الدولة قد انطلقت بدءا بتنظيم الرئاسة، لكن غزواني -وعلينا أن نكررها مرات- يختلف عن ما عهدناه من الغلظة في اتخاذ القرار. لقد كان مدير الديوان هو من أبلغ المستشارين بالإقالة وبأن الرئيس يبحث لهم منذ سنة عن مخرج، ما يعني أنه لا يريد أن يقذف بهذا الكم من الأطر للشارع، إنه أسلوب مرتبط بالتربية ومستويات وأبعاد أخرى قبل الرئاسة، وإن علينا مرة أخرى أن نمنح لغزواني حق الاختلاف. لكن علينا أيضا أن نلاحظ -وحسب المفاهيم الحقيقية لنظام الفساد- أنه لم يعد هناك كسر للقواعد الإدارية للحصول على مكسب مادي، وكذلك لم تظهر أي تجليات لسوء استخدام السلطة للحصول على منفعة شخصية، ولا تجاوز السلطة واستغلال المعلومات الممتازة، كما أننا لم نلاحظ مظاهر الفساد بقوة القانون أو الفساد ضد القانون، أو انفراد الطبقة الحاكمة بتحقيق منافع عائلية على حساب الشعب، وهكذا يكون من المنصف جدا أن نقيم غزواني، بعد القضاء على المؤشرات الكبرى للفساد، انطلاقا مما طرح على نفسه تحقيقه .
إننا اليوم نعيش لحظة انعطاف وطنية تضعنا أمام خيارين: خيار الشراكة المرحلية، أي تبَنّي مقاربة النظام لأجل توحيد الجهود ودعم التعبئة حول مكافحة الوباء ومحاربة الفساد من خلال القضاء على الاتجاهات الكبيرة له، ومن الواضح أنها لن تكون بالحماس ولا بالراديكالية التي يجري لها الترويج في أوساط الشباب ، بل بتفعيل مقاربة خاصة في تحقيق المستوى أو الحدود أو السقف الذي يراه النظام مناسبا ليشكل بداية لمراكمة الخبرة في المجال، وليظل الهدف الأسمى هو البقاء على التوجه فاعلا، مقدرين له، في الوقت نفسه، وضع الرؤية والمحددات: (السقوف والإجراءات والترتيبات لذلك). أما الخيار الثاني فيتمثل في أن تنظم المعارضة صفوفها في ضوء الوضع الراهن وتتقدم بمقاربتها لمواجهة الفيروس ولمحاربة الفساد وتلعب دورها التقليدي كمعارضة تعارض على أساس اختلاف الرؤى، وستكون في مواجهة نظام يحترم لها موقفها السياسي ويفتح لها باب التشاور والشراكة في الرقابة ويملك خطوط اتصال مباشرة مع زعمائها ولا يسعى لإضعافها. وأعتقد أن المثل الحساني (المُخَيّر ماهُ مَغبون) يقدم لنا الحل المنصف بعيدا عن أي صدام أو لجوء للعنف اللفظي.
لقراءة الحلقة الأولى