الخميس
2024/03/28
آخر تحديث
الخميس 28 مارس 2024

القدس تستنهض الجميع / علي شندب

16 مايو 2021 الساعة 20 و00 دقيقة
القدس تستنهض الجميع / علي شندب
علي شندب
طباعة

فضحت القدس الجميع، وأسقطت أوراق الوهم قبل التوت عن الجميع. فقد برهنت القدس أنها لم تزل المكان الوحيد الذي يختزن الوجدان الجمعي العربي الفلسطيني والاسلامي المسيحي والانساني ايضا. أكدت القدس مرة أخرى أنها المرجل الوحيد المتبقي لاستنهاض واعادة بعث النضال الفلسطيني وتزخيمه وصقله وتكريسه بوصلة حقيقية لاستنهاض بقية العرب من شتاتهم الممزّق بين المحيط والخليج.
القدس تستنهض الجميع. خلال أيام قليلة فعلت القدس هذا، انطلاقا من الملحمة المتواصلة في حي الشيخ جراح الذي استطاع شاباته وشبابه وكهوله ولفيف عربي فلسطيني انضم اليهم من الجوار القريب والبعيد داخل الوطن الشريد من إعادة تصويب المسار وتأجيج جذوة النضال لاسترجاع الحقوق التاريخية في القدس المحتلة كخطوة مكثفة تمكنت من استدعاء التاريخ منذ عهد الفاتح صلاح الدين الايوبي الذي يعتبر الشيخ جراح طبيبه الخاص، ما يفسر أهمية استدعاء المقدسيين لصلاح الدين.
ما فعلته القدس، أنها ركلت برجل واحدة اعتراف الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب بالقدس عاصمة لاسرائيل. كما ومزقت الامر التنفيذي وكسرت القلم الذي أهداه لنتنياهو في تلك اللحظة المشؤومة. انه الاعتراف الترامبي الذي للمفارقة لم تعترض عليه مسيرة واحدة او شبه اعتصام، بل فقد بدا أمر "اسرائيلية القدس" وكأنه ملك يمين ترامب. وهذا الامر يسحب نفسه ايضا على قرار ترامب في "اسرائيلية" الجولان السوري المحتل. وهو الاعتبار الذي للمفارقة ايضا لم يحظ بأي اعتراض على مستوى النخب وليس النظم الرسمية فقط.
وفي هذا السياق بدت ملامح صفقة القرن التي كان يمسك بملفها ويرسم تضاريسها صهر دونالد ترامب ومستشاره جاريد كوشنير ترسم على الارض بفعل القرارات الترامبية في لحظة بلغ فيها الضعف والتشتت والتمزق العربي مدى غير مسبوق.
وقد لحق بالقرارات الترامبية حول القدس والجولان، انطلاق قطار التطبيع بين بعض الدول الخليجية واسرائيل. وهو التطبيع الذي قوبل بصمت مطبق خصوصا من هيئات مقاومة التطبيع في البلاد العربية التي لم ترتقي الى مستوى تخصصها في تنظيم فعالية واحدة، مسيرة كانت اعتصام او ندوة للتحذير من مخاطر التطبيع على الوجود العربي (ربما يعزي البعض السبب الى الحجر الصحي الذي فرضته كورونا) وخصوصا على القضية الفلسطينية، بوصفها مفتاح السلام والاستقرار والأمن والازدهار الحقيقي الوحيد لمنطقة الشرق الاوسط برمتها الذين لن يتحققوا الا بحصول الفلسطينيين على كامل حقوقهم الشرعية والتاريخية.
فضحت القدس الجميع، فلم تنجح اتفاقيات التطبيع التي أبرمت كخيار سيادي للدول التي وقعتها، والتي كانت الخرطوم آخر من التحق بمقطوراتها في مقايضة مهينة مقابل رفع اسم السودان عن لوائح الارهاب. فيما كانت رشوة المغرب الذي شن رئيس حكومته هجوما على الامارات والبحرين لانهما طبعا علاقاتهما، اعتراف ترامب بمغربية الصحراء. لم تنجح في انتزاع حقوق الفلسطينين وحمايتها، لكنها منحت اسرائيل مدى جيواستراتيجيا على امتداد المنطقة برمتها.
أهمية ما تشهده القدس أنها أعادت تعبئة الشعب العربي الفلسطيني على امتداد فلسطين وفي مخيمات الشتات وحول العالم بعدالة قضيته التي تستحق التضحيات، فلم يبخل عليها بالدماء. وأن مواجهات القدس اليوم تتم بوسائل وأساليب تشبيكية شبكية مثقفة جديدة تستوعب لغة العصر وتقانته. ويمتاز شابات فلسطين وشبابها بحركة مدروسة ومتناسقة ومستوعبة لنضالات الاباء ومستفيدة من الاخطاء والدروس والعبر في تصعيد نضالهم الوطني الاسلامي المسيحي ضد الاحتلال الاسرائيلي للقدس وفلسطين.
بدون شك المواجهات الفلسطينية انطلاقا من الشيخ جراح واحتفالات ليلة القدر في المسجد الاقصى وصلاة العيد، وما جرى في اللد وحيفا وغيرهم من ترابط وطني أربك المشهد الاسرائيلي المربك بمستواه السياسي أصلا، فبدا بعض ساسة اسرائيل يبدون تخوفهم وتوجسهم من انطلاق حرب أهلية مفتوحة بين العرب والاسرائيليين.
مواجهات القدس أتت بعد اعلان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس تأجيل الانتخابات بذريعة عدم سماح اسرائيل بإجراءها في القدس. انها الذريعة التي تستبطن حقيقة مؤلمة تفيد بخسارة لوائح عباس الانتخابات لمصلحة مناهضيه من حركة فتح وتحديدا تيار محمد دحلان. كما إنها أتت بعد فشل نتنياهو في تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات الاخيرة.
لكن ما فعلته القدس، ينبغي الا يشيح بنظرنا عن غزة. التي رفعت فصائلها راية الانتصار للقدس. فرسمت في المشهد معادلات عسكرية جديدة. أظهرت عن قوة صاروخية استهدفت مواقع غير مسبوقة في المواجهات السابقة. صواريخ ذات مديات طويلة تمكن اختراقها المحدود للقبة الحديدية من تعطيل المطارات الاسرائيلية في تل أبيب وقرب العقبة الاردنية. ما جعل العقل الاسرائيلي العميق يستشعر اقتراب نهاية اللعبة. وهو العقل الذي دفع الة الحرب الاسرائيلية للاعلان عن مشاركة 160 طائرة بقصف نحو 450 صاروخ وقذيفة خلال 40 دقيقة، عدا عن قصف المدفعية والبوارج البحرية.
صحيح أن العرب منقسمون حيال حركة حماس التي سبق وانغمست في مشاريع لا تخدم القضية الفلسطينية في سياق الربيع العربي المشؤوم وعضت الايدي التي امتدت اليها بالعون كحركة مقاومة ضد اسرائيل، لكنها ارتضت ان تصبح من ثوار الناتو في ليبيا على سبيل المثال، وحركة استبدلت برنامجها المقاوم ضد اسرائيل بأجندة ايران والاخوان وفي غير بلد عربي.
مأزق الواقع السياسي الفلسطيني متماثل مع المأزق الاسرائيلي. نقطة الضوء الوحيدة هي أن تشكل هذه المواجهة من القدس الى غزة فرصة تاريخية لانتاج وحدة وطنية فلسطينية حول مشروع وطني فلسطيني جديد يستند على قوة الحق والميدان والوعي الجديد الذي يمثله الجيل الفلسطيني الجديد الذي استطاع مرة أخرى رغم الالام والتضحيات والدمار أن يصيغ ملحمة وطنية نضالية تحوز على ثقة الشعب الفلسطيني لتشكل عامل استنهاض جديد للشعب العربي التواق لمغادرة مربع العجز والفقر والتخلف والشعور باضمحلال الكرامة باتجاه مربع القوة والعلم والتنمية والحقوق.
من الصعب وضع خلاصات تقريرية حول مواجهات فلسطين من القدس الى غزة.
فعلى مستوى القدس المدينة التي اعلنها ترامب عاصمة للدولة العربية، فإنها ستكون محل مراجعة حتمية من ادارة بايدن أقله على مبدأ حل الدولتين والمبادرة العربية للسلام التي طرحتها السعودية في قمة بيروت، لكن الاسرائيليين لم يلتفتوا اليها.
على مستوى غزة. برز نوع من الردع الجديد تمثل بهزّ "الصواريخ الفلسطينية" لمنظومة الامن الدفاعي الاسرائيلية المتمثلة بالقبة الحديدية. وفي هذا ما يؤرق اسرائيل ويجعل مطلبها بتفكيك الترسانة الصاروخية الفلسطينية مطلبا مشابها لنزع سلاح حزب الله في لبنان. لكنه المطلب الذي دونه توازنات خطيرة ربما تهتز لأجله الحدود الشمالية مع فلسطين المحتلة وفي هذا ما يدعنا نتبصر بحقيقة الصواريخ التي انطلقت من جنوب سوريا باتجاه فلسطين المحتلة، وسبقها ثلاث صواريخ انطلقت من محيط مخيم الرشيدية في جنوب لبنان وتنصل منها حزب الله. لكن الحزب سارع الى نعي أحد عناصره "الشهيد محمد قاسم طحان" الذي قتل برصاص اسرائيلي "أثناء مشاركته في التظاهرات الشعبية على الحدود اللبنانية الفلسطينية".
بدون شك ثمة مشهد جديد يرتسم في المنطقة انطلاقا من فلسطين. عسى أن تتلقف دول الجامعة العربية الفرصة وتطلق موقفا استثنائيا لاستعادة ملف فلسطين المخطوف من أيدي المحتلين الاسرائيليين والمتاجرين الايرانيين، الذين لطالما صمّوا آذاننا بقدرتهم على تدمير اسرائيل خلال 7 دقائق ونصف، ثم تراجعوا بحجة أن الظروف غير مؤاتية.
عسى ألا تتحول الآمال المتواضعة اوهاما.