الخميس
2024/04/25
آخر تحديث
الخميس 25 أبريل 2024

حنجرة موريتانية ضد انحرافات المجتمع واستبداد السلطة.. معلومة منت الميداح فنانة حوّلها التمرد إلى أيقونة

26 يناير 2022 الساعة 18 و56 دقيقة
حنجرة موريتانية ضد انحرافات المجتمع واستبداد السلطة.. (…)
طباعة

لا يمكن الحديث عن الفن والسياسة في موريتانيا دون التوقف طويلا عند تجربة معلومة، ويقال كذلك المعلومة، منت، أي بنت، الميداح، أيقونة الغناء القادمة بخصوصية الصوت المتفرد في مواجهة السلطات المختلفة بوجوهها المتعددة، سلطات السياسة والعسكر والدين واللون والجنس والتوازنات الطبقية والعادات المتحكمة في محيط تقليدي فرض على الفنانة الكبيرة حتى احتراف الفن باعتبارها تتحدر من أسرة تحترف العزف والغناء ضمن منظومة اجتماعية ليس بوسع عناصرها الانسلاخ عن قدرهم المتوارث كأفراد أو كجماعات.

ينظر الموريتانيون إلى منت الميداح على أنها سيدة عرفت كيف تشكّل لنفسها قدرا يليق بتطلعاتها أمام العديد من التناقضات التي قابلتها في مسيرة حياتها منذ أن وجدت نفسها طفلة محمولة على واقع أسري وضعها ضمن إطار ينفرد به مجتمعها، وهو أن الفنانة ترث الفن عن أسرتها ليس كموهبة أو كحرفة فقط، وإنما كهوية اجتماعية تتأسس عليه ملامح دورها وحضورها في الحياة، لذلك فهي جزء من تاريخ أسري وقبلي عريق مرتبط بالفن كمسار ومسيرة، لكنها أضافت إليه بصمتها الخاصة بأن قررت أن تقول لا، وأن تعلنها عاليا من داخل المنظومة التي وجدت نفسها تتحرك ضمنها.

أنغام التيدنيت والآردين

منت الميداح من مواليد الأول من أكتوبر 1960 بمنطقة المذرذرة في ولاية الترارزة بجنوب غرب موريتانيا، ترعرعت في قرية “شرات”، ووالدها هو المغني والعازف الشهير المختار ولد الميداح الذي تعلم بدوره الفن عن أمه العازفة المشهورة منينه منت البُبّان، وكان يسرق “تيدنيت” خاله أحمد ولد الببان، وهي آلة العزف التي كان يستعملها في بداياته، قبل أن يتحول إلى فنان معروف يقول عنه النقاد إنه كان من أوائل المؤسسين لنظام التناسق اللحني بين الكلمات المنشدة باللغة العربية الفصحى والمقامات المحلية، وقد تغنى بقصائد حسان بن ثابت، وبقصائد الفخر لكبار الشعراء العرب، ثم قصائد لأحمد شوقي وغيره، وبصم الفن الموريتاني بتجربته المتميزة منذ أربعينات القرن العشرين.

وقد تزوج ولد الميداح من فنانة موهوبة ومبدعة من بنات أخواله وهي عائشة بنت البُبّان، وعندما بلغت ابنته معلومة السادسة من عمرها كانت والدتها قد علمتها العزف على آلة “آردين”، وهي آلة وترية تقليدية تعزف عليها النساء، كما كان والدها قد بدأ يعطيها دروسا في أداء الشعر ولفظ الكلمات والتعامل مع الإيقاعات.

التحقت بالمدرسة الابتدائية في المذرذرة عام 1965 وحصلت في العام 1974على شهادة تخرج في مجال التدريس الابتدائي في مدينة روصو الواقع على الحدود الجنوبية مع السنغال، ولكنها اضطرت للانقطاع عن التدريس نتيجة العادات والتقاليد الاجتماعية التي تفرض على بنات الأسر الفنية الانشغال بتعلم الموسيقى التقليدية وإتقان العزف على آلة “آردين”، وهو ما تهيأت له بالفعل حيث علمها والدها أسس الغناء والتطريب والمقامات التقليدية، وأساليب المزج بينها، كما ترعرعت على سماع أبرز الموسيقات الغربية الكلاسيكية لبيتهوفن وموتسارت وشوبان وفيفالدي وفاغنر وغيرهم، وعلى الألوان الموسيقية والغنائية العربية الشرقية والأمازيغية والأفريقية، وفي الثانية عشرة من عمرها وقفت لأول مرة على المسرح لتغني وتعزف مع والدها الذي كان أول من قدمها للجمهور.

شاركت منت الميداح في عروض شعبية وهي في الخامسة عشرة من عمرها، وقد بدأت تبرز كفنانة شابة تضج روحها بالطموح والتطلع إلى النجومية، وترى في أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وفيروز رموزا وعناوين تقتدي بها في مسيرتها، كما أبدت تعلقا بألوان موسيقية أبرزها موسيقى “البلوز” التي تعبر عن خليط من الثقافتين الأفريقية والغربية في الجنوب الأميركي، وعندما كانت في السادسة عشرة، كتبت أولى أغانيها ولحنتها وقدمتها للجمهور وهي “حبيبي حبيتو” التي حققت نجاحا واسعا نظرا إلى الموضوع الاجتماعي المهم الذي تطرقت إليه، وهو إقدام بعض الرجال في المجتمعات القروية على طرد زوجاتهم للزواج بمن يصغرنهن سنّا، لكن رد فعل رجال الدين في المنطقة كان عنيفا، فبعد فترة قليلة اضطرت للانتقال مع أسرتها إلى العاصمة نواكشوط لتبدأ مسيرتها الفنية الحقيقية من هناك، ولكنها فوجئت بمستجدات أخرى في حياتها، فقد أكرهتها الأسرة على الزواج من رجل لا تميل إليه ويكبرها كثيرا بالسن، وهو ما جعل الزواج لا يعمر طويلا، ثم كان زواجها الثاني من ابن إحدى العائلات النبيلة، ويقال إنه أحبها وتعلق بها رغم رفض أسرته لزواجه منها، وكان على منت الميداح أن تنقطع عن الغناء بقرار من زوجها.

لم يكتب لذلك الزواج أن يستمر طويلا، ما جعل البعض يتحدث عن غضب ولد الميداح من مسار حياة ابنته، فقد تطلقت مرتين، والأهم من ذلك أنها جبلت على روح التمرد في أغانيها وفي الكلمات التي تكتبها بنفسها وتوجه فيها انتقادات صارخة للمجتمع وللسلطة السياسية وهو أمر جديد تم تسجيله آنذاك في الخطاب الغنائي وتشكلت ملامحه مع بدايات الظهور الكبير للفنانة الشابة في العام 1986 عندما مزجت معلومة الروح التقليدية بخصوصياتها المحلية مع نزعة إنسانية منفتحة على التجارب العالمية ولاسيما على البلوز والجاز والإلكترو، وذلك عبر الاستعانة بالآلات التقليدية والحديثة، وبقصائد الشعراء العرب القدامى كعنترة وأبي الطيب المتنبي، وكذلك بقصائد من الشعر الحديث باللهجة الحسانية المتداولة بكثافة في موريتانيا ودول الجوار، كما غنت باللغة الفرنسية واللغة الولوفية التي تنطق بها أقلية كبيرة في موريتانيا وأغلبية أهل السنغال المجاورة.

تألق بدأ من قرطاج
ظهرت منت الميداح مع شقيقتها منينة وشقيقها العازف عرفات من خلال منوعات على شاشة التلفزيون، وكان أبرز ظهور مشترك لهما على ركح مهرجان قرطاج الدولي بتونس في صيف 1989 ضمن حفل مغاربي كبير بمناسبة الإعلان عن قيام إتحاد المغرب العربي، حيث قدمتا أغنية “حبيبي حبيتو” التي نالت نجاحا كبيرا بين التونسيين، ومن هناك بدأت رحلة الانتشار على نطاق أوسع، حيث اتجهت معلومة لتسجيل أغان تتحدث عن الفقر والظلم والأمراض وفقدان المساواة في المجتمع الواحد، وفي العام 1991 تعرضت لحصار إعلامي في بلادها بسبب أغنية تتحدث عن حرية التعبير، وتم منعها من كتابة الأغاني المثيرة للجدل والتي تطرق مواضيع جريئة تتعلق بحرية المرأة والمساواة بين الجنسين، وبلغ الأمر حد منعها رسميا من الظهور في التلفزيون الموريتاني أو على صفحات الجرائد الحكومية، ومن إقامة الحفلات العامة، ولاسيما بعد إعلانها في العام 1992 دخول المعترك السياسي من بوابة المعارضة في أول انتخابات تعددية بموريتانيا، من خلال مساندتها للمرشح الرئاسي أحمد ولد داداه في مواجهة رئيس البلاد آنذاك معاوية ولد أحمد الطايع، وانضمامها إلى حزب اتحاد القوى الديمقراطية/ عهد جديد، ثم إلى تكتل القوى الديمقراطية الذي تأسس بعد حل الأول.

كانت منت الميداح قد حولت حنجرتها إلى منصة سياسية للمعارضة، وهو ما جعل السلطات تستمر في حظر بث أغانيها لمدة أكثر من 15 عاما، وفي العام 2003 تظاهر ما لا يقل عن عشرة آلاف موريتاني للمطالبة برفع الحظر عنها في رسالة واضحة إلى نظام ولد الطايع الذي أذن بالسماح ببث أغانيها ولكن في سياقات محدودة وتحت رقابة دقيقة، إلى أن تمت الإطاحة بالنظام من خلال الانقلاب عليه في الثالث من أغسطس 2005، وقد أكدت منت الميداح لاحقا أن أبناء الرئيس ولد الطايع كانوا يحضرون حفلاتها الخاصة، وأنها اكتشفت أن الرئيس لم يكن مسؤولا عن الحصار الذي استهدفها، وقد اعتذر لها باسم نظامه قبل الإطاحة به، وفي السادس عشر من ديسمبر 2014 أعلنت الفنانة المثيرة للجدل مغادرتها مربع المعارضة السياسية والتحاقها بالحزب الحاكم الاتحاد من أجل الجمهورية، وفي العام ذاته أصدرت ألبوم “أكنو” الذي يجمع الفن التشكيلي والموسيقى بصفة عضوية وهو يتأسس على نمط موسيقى تقليدي تعتمد عليه النساء في الرقص.

وأحيت عددا من الحفلات في خارج البلاد، وزارت الولايات المتحدة وغنت على مسارح آن آربر وشيكاغو وبوسطن وكامبريدج ولافاييت قبل أن تختتم جولتها في نيويورك. ثم شاركت في النسخة الثانية والثلاثين من مهرجان باليو في مدينة ليون السويسرية، والذي ركّز على الموسيقيين من شمال أفريقيا، وفي العام 2007 كان هناك حدث مهم في حياتها السياسية حيث تم انتخابها عضوا في مجلس الشيوخ (الغرفة الأولى في البرلمان الموريتاني) على قوائم حزب تكتل القوى الديمقراطية، ووفر لها البرلمان منبرا لإيصال رسالتها السياسية، فواصلت ممارسة السياسة وتمسكت بالفن لأنها ترى أن “رسالة الفن أزلية والخطاب السياسي عابر، والغناء قد يساعد في بلورة خطاب سياسي يتجاوز مداه قاعة البرلمان”، وعندما قاد محمد ولد عبدالعزيز انقلابا عزل بموجبه محمد ولد عبدالله من منصب الرئيس كتبت منت الميداح وغنت ضد الانقلاب مما جعل النظام الجديد يصادر نسخ ألبوماتها وتم القبض عليها، وفي انتخابات 2009 ترشحت معلومة مرة أخرى وفازت بعضوية مجلس الشيوخ، لكن ذلك العام عرضها لفاجعة مدوية، ففي التاسع من يوليو أعلن في نواكشوط عن وفاة شقيقتها وشريكتها في مشوار النجاح منينة في حادث سير مروع عند مدخل نواكشوط، حيث كانت عائدة من مدينة نواذيبو رفقة شقيقها العازف عرفات.

دور بيئي فريد

في مجال البيئة، شاركت من الميداح في مشروع لإعادة تسكين 9 آلاف عائلة فقيرة من ضواحي المدينة في الأحياء بداخل المدينة، وأصرت على متابعة إعدادات البنية التحتية في المناطق السكنية الجديدة لتضمن الجوانب الصحية لهم. وفي أغسطس 2011، اختارها الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة كسفيرة للنوايا الحسنة لوسط وغرب أفريقيا.

تطلب منصبها رفع مستوى الوعي بالمشاكل البيئية بهدف تقديم حلول مستدامة. وقد ذكرت بعد تعيينها أنها سقوم بما في وسعها لتكون على قدر هذه المسؤولية العظيمة.

استطاعت منت الميداح أن تكتسب سمعة دولية في المجال الفني، وشاركت في مهرجان فورديه الدولي للموسيقى الشعبية بالنرويج تحت عنوان “الحرية والاضطهاد” واختيرت كواحدة من بين ثلاثة فنانين للمشاركة في نهائي المهرجان الدولي لفنون الأهقار في أبلسة في الجزائر، كما تلقت إشادة على التوازن بين الآلات وصوتها والألحان وأداء المغنيين الاحتياطيين، ثم شاركت في مهرجان عالم الموسيقى والفن والرقص في ويلتشاير في إنجلترا، وحصلت على وسام جوقة الشرف من الرئيس الفرنسي.

وفي ديسمبر من عام 2014 أعلنت منت الميداح عتزالها الشأن السياسي والاتجاه للاهتمام بالقضايا الاجتماعية والثقافية والبيئة والخيرية، وذلك في تأكيد على قرارها المعلن سابقاً عندما قالت في رسالة مفتوحة إلى جمهورها “لا شك أن الأعمال الفنية الملتزمة الهادفة قد تقود صاحبها إلي البحث عن أفق أوسع لتبليغ رسالته وذلك بالضبط هو ما حدث معي فوجدت نفسي أصعد إلى المنابر السياسية، فرافقت الزعيم المناضل الكبير السيد الرئيس أحمد ولد داداه الذي وجدت في برنامجه السياسي ما ينسجم مع تطلعاتي لتحقيق الحلم الكبير”.

قامت بإطلاق مؤسسة لحفظ وترقية الموسيقى والتراث الوطني بالاشتراك مع مجموعة من الأصدقاء الذين يؤمنون بالأهداف التي تؤمن بها من ترقية وحفظ وتعريف بالموروث الثقافي الموريتاني بصفة عامة.

لم تقتصر منت الميداح في نضالها من خلال أغانيها على بلدها موريتانيا فقط، بل غنّت للقضايا العربية أيضًا. وظلّت قضيتا فلسطين والعراق حاضرتين في أغانيها، لكن أبرز دور لها سيبقى نزوعها إلى التمرد السياسي والاجتماعي بروح التطلع الى الحرية والديمقراطية والمساواة من وجهة نظر فنانة ترى أن دورها هو نشر الوعي بين مختلف فئات شعبها، وهو ما نجحت فيه إلى حد بعيد.
المصدر