الخميس
2024/03/28
آخر تحديث
الخميس 28 مارس 2024

خواطر رمضانية حول قيم الدولة العصرية!..

26 أبريل 2022 الساعة 08 و17 دقيقة
خواطر رمضانية حول قيم الدولة العصرية!..
طباعة

لاتعدو هذه الأسطر والكلمات مجرد تأملات وخطرات رمضانية ، تتدثر بحلة هذا الفضاء الزماني المبارك لتستعرض بعض القيم والمفاهيم المركزية فى تاريخنا الإسلامي العظيم ، لكنها تنفتح فى الآن ذاته على الواقع ، فتطرح أسئلة الحكامة والتنمية ، وتبحث إشكالات الفكر والتربية ، وتعرض لكل المشاغل والقضايا الوطنية ؛ انطلاقا من منظور شمولي حداثي ، منفتح على كل المقاربات الفكرية والإسهامات العلمية ؛ فى شتى المجالات المعرفية والتجارب البشرية العالمية ، وقد بات لزاما على الموريتانيين - أكثر من أي وقت مضى- أن يعملوا على بلورة "مشروع مجتمع مؤسسي حداثي" يرتكز على منظومة قيم معاصرة ، تحدث قطيعة سوسيو - ثقافية مع تراث "البداوة " وإرث " السيبة" من أجل تجذير مفاهيم الحكامة والتنمية ، وتكريس قيم الدولة المدنية ، وترسيخ ثقافة القانون والنظام والكيان المؤسسي الجامع.

لامراء فى أن الديمقراطية نظام سياسي حديث من أرقى نظم الحكم التى توصلت إليها البشرية ، ولا جدال فى أنها تشكل آلية راقية ووسيلة حضارية للتداول السلمي ، وتدبير وتسيير الشأن العمومي .
بيد أننا نسيئ إليها ونسيء فهمها حين نجتثها من سياقها التاريخي العام ، ونقتلعها من ظروفها الموضوعية ومسوغاتها المجتمعية ، فنراها وفق نظرة اختزالية قاصرة مجرد (قوائم للناخبين ولوائح للمترشحين وصناديق للاقتراع... )..إنها فى الواقع جزء لا يتجزء من منظومة قيم حداثية شاملة ، إذا لم تتكرس عوامل وجودها ومناخ احتضانها فى بيئة مجتمعية معينة ، فإن الديمقراطية بمفهومها الشكلي تصبح ترفا سياسيا وطلاء تجميليا لا طائل من ورائه.

لابد لبناء دولة عصرية وإرساء ديمقراطية حقيقية وحكامة نموذجية من العمل الجاد على تجذير الوعي المدني و ترسيخ ثقافة المواطنة ، وتعزيز مفهوم الدولة المدنية الحديثة ، وتوطيد دعائم الحكم الرشيد ، والقضاء على البيروقراطية والرشوة واختلاس المال العام ، ومحاربة شتى أنساق وأصناف الفساد الإداري والمالي ؛ عبر انتهاج منطلقات سليمة ، تؤسس لقيم أخلاقية جديدة فى الحكم ، قوامها سيادة القانون والإنصاف والعدالة والمساواة ، وغايتها احترام الحقوق وحماية الحريات ، ومنهجها تعزيز وتفعيل آليات الرقابة والمساءلة والمحاسبة لإشاعة قيم النزاهة والشفافية والكفاءة المهنية فى إدارة المصادر البشرية و تسيير الموارد المالية العمومية.

لقد شهدت البلاد خلال العقود الأخيرة استشراء ظاهرة خطيرة ، تدرجت مع مرور الزمن ، فتحولت من طور الاستثناء لتتكرس قاعدة لعمل ممنهج ، يستنزف ثروات البلاد وينهب خيرات العباد فى سياق ما بات يعرف باختلاس المال العام ، ولعل الأدهى والأغرب فى الأمر أن هذه الممارسة انتقلت من صفة العيب والقدح ، لترتدى لبوس المدح ، فى بعض الموازين المختلة ، فاضطربت المفاهيم والتبست المصطلحات التى ينعت بها أصحابها فى قاموس و أدبيات الخطاب السياسي المحلي ، وكأنما غاب عن الأذهان والأفهام أن اختلاس المال العام جريمة قانونية واقتصادية بشعة ، ومعضلة اجتماعية وأخلاقية سيئة، مدانة فى كل الشرائع والقوانين والأعراف البشرية ، وهي من أخطر الظواهر المعيقة للتنمية .

ومن غرائب الأمور ومفارقاتها أن النخب الثقافية والفكرية والسياسية التي تتغنى بالقيم والمثل والمبادئ ، ما إن تتولى مسؤولية فى تسيير الشأن العام - فى الغالب- حتى تغرق فى الوحل ، وتبدأ فى ممارسة الفساد متنكرة لمبادئها وقيمها ، والأغرب من ذلك أننا نجد بعض من مارسوا الفساد فى هذه البلاد يتنطعون أمام الملإ ، ويتحولون بين عشية وضحاها إلى واعظين ومصلحين ومدافعين عن قيم الديمقراطية والجمهورية.

نحتاج إلى "نقد العقل الموريتاني" وتحليل بنيته النفسية والذهنية ، وتفكيك تركيبته الانتروبولوجية لفهم هذه التناقضات والمفارقات السلوكية الصارخة!..بين الرؤية النظرية والممارسة الميدانية لبعض النخب الوطنية.. إننا بحاجة ماسة إلى التأسيس لنهج جديد فى الحكامة ، قائم على المساءلة والمحاسبة ، و البحث عن الخبرة والكفاءة ، والقطيعة مع ممارسات الفساد و الزبونية والمحسوبية والبيروقراطية الإدارية ، والحث على التسيير العقلاني الراشد للثروات والموارد العمومية ؛ الموجهة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية وتحقيق الرفاهية للمواطنين ؛ بوصفهم الثروة الحقيقية ووسيلة التنمية وغايتها.

ولابد لتحقيق ذلك من العمل المدروس والممنهج ، والانفتاح على الثورة التقنية والتأسيس لنظم الإدارة الرقمية والحوكمة الإلكترونية من أجل المواكبة الديناميكية لمستجدات القرية الكونية ؛ فضلا عن القطيعة الكلية مع القنوات التقليدية المناقضة لقيم العصر ؛ وبذلك نصل إلى إرساء أسس مجتمع حداثي ، تغيب فيه الذوات وتحضر المؤسسات ، وتصان مكاسب الديمقراطية والحكامة والتنمية ، وتكرس قيم الدولة المدنية العصرية بالاحتكام إلى صوت العقل والمسؤولية ، وذلك أهم مدخل للتحول من النظرة السلبية والرؤية العدمية ..والفهم العقيم والفكر السقيم!.. للإقلاع نحو مداءات رحبة ومساحات خصبة ؛ من النقد الموضوعي البناء والتعاطي المنهجي العميق ، والتفكير الإستراتيجي الأصيل والتخطيط الاستشرافي الرصين لكل مشاغلنا العامة وقضايانا الوطنية الجوهرية الكبرى .

د.محمد ولد عابدين
أستاذ جامعي وكاتب صحفي