الجمعة
2024/04/26
آخر تحديث
الجمعة 26 أبريل 2024

محمد محمود ولد بكار يكتب: رمضان في الحرمين الشريفين... انطباعاتي(الحلقة الأولى)

1 مايو 2022 الساعة 01 و49 دقيقة
محمد محمود ولد بكار يكتب: رمضان في الحرمين الشريفين... (…)
محمد محمود ولد بكار
طباعة

من الصعب أن تتخيل أنك تجتمع بكل سكان انواكشوط دفعة واحدة تحت نفس السقف وفي آن واحد، ومع ذلك يتسع كل واحد من الحرمين الشريفين لأكثر من مليون 600ألف شخص دفعة واحدة وتحت سقف واحد، الوضع أكثر صعوبة بالنسبة للحرم المكي الذي وضعه الله يوم وضعه بين جبال مكة التي ابتلعت مساحة الأرض من حوله وتركته مخنوقا في منطقة صغيرة وهي التي علق الله أفئدة الناس بها كما جاء في الخطاب القرآني في شكل استجابة فورية لنبينا إبراهيم على مر التاريخ الذي يمتد لنهاية الدنيا، وهكذا يكون تعاظم الوفود إليه أمرا حتميا تصاعديا، وهكذا أيضا تطلبت مواءمته مع دعوة إبراهيم الخليل التي ترجمها تزايد موجات الزوار مع السنين، الذين صاروا منذ نهاية التسعينات يحسبون بالملايين ويبلغون الذروة في العشر الأواخر من رمضان المبارك حيث تختبىء ليلة القدر العظيمة (التي تعادل عبادة 84 سنة أي عمرا كاملا) وأيام الحج الخمسة باحتساب يوم التروية -إزالة معالم مهمة مثل جبل عمر وجبل الكعبة وجبال أخرى في حين يبقى جبل أبي قبيس أحد الأخشبين مخنق الصفا محمي من الإزالة بسبب أنه مصدر ماء زمزم ، وقد تمت إزالة هذه الجبال لمضاعفة مساحة الحرم والإفساح للمصلين ، وبناء تلك المساحات بناء ضخما آمنا لا شفقة فيه على الدراهم بقيمة 100 مليار دولار كما أكدت فاتن حسين، مستشارة وزير الحج والعمرة، في بيان، السبت 20 يوليو 2019: إن "المملكة ضخت 100 مليار دولار على مشاريع التوسعة الثالثة في المسجد الحرام والتي تضمنت 5 مشاريع أساسية: مبنى التوسعة الرئيس وشمل تطويراً للمسعى والمطاف، ومشاريع الساحات، والأنفاق، ومحطة الخدمات المركزية، والاستمرار في توسعة الملك عبد الله بن عبد العزيز".
كل هذه لتحصيل فضاءات على أنقاض الجبال مغطاة في شكل أروقة بمنتهى الأناقة والضخامة والجمال رغم ما تبتلعه من الخرسانة والأسمنت المسلح اللذين تغطيهما طبقة براقة من بلاط الخزف الأملس المضيء بصفائحه العريضة وبسقوف متناسقة مزخرفة بالألوان الداكنة الزاهية، بشكل جميل لا يأخذ المصلين أو يلفتهم عن العبادة، رغم ما تحمله من جمال اللمسة ، مما يجعل هدف التوسعات ليس فقط تحصيل تلك المساحات الشاسعة للمصلين ولكن أيضا زرع السكينة في النفوس بتوفير جميع الشروط والظروف لكي تظل القدسية والعظمة والمهابة بادية على المكان .
الأمر المثير حقا في ذلك أن الفضاءات المكشوفة التي تمشي فيها الناس حافية لدواعي عظمة المكان والتي يتم فيها الحفاظ على برودة غير متوقعة للأرضيات المكشوفة المغطاة بالحجارة الخزفية التي من طبيعتها تخزين الحرارة وهي تكوى بشمس الحجاز المتوهجة منذ طلوعها، والمحملة برسائل عديدة لها مدلول خاص في هذا المكان لتذكيرنا بأن أوقات أشد حرا تنتظرنا في الآخرة ولايمكن تجنبها إلا بالتصدق وإخلاص العبادة للواحد القهار، وأن نشعر بعظمة المكان وعظمة الناس الذين أوصلوا لنا هذه الرسالة على أحسن وجه وهم في هذا المناخ الذي لا يملكون فيه أي مرطبات من تكييف ولاظل وارف ولا وسيلة نقل سريعة وباردة ولا أي شيء لطيف مما نعرفه اليوم في مناخنا ولا في ظروف عيشنا ، إنها مناسبة للصلاة على الحبيب صلى الله عليه وعلى صحبه صلاة من القلب مع الاعتراف بفضلهم وتقدير تضحياتهم حق التقدير والاعتراف لهم بالجميل "اللهم صل على من نشر الرسالة وبلّغ الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين وعلى صحبه البررة الذين لم يخذلوه .
بينما في أي مكان آخر خارج الحرم لو وضعت قدميك من دون نعل فلن تصلا الأرض حتى تطير منها للهواء شدة وهجها.
ومع كل تلك التوسعات ما زال المكان يشيي بالضيق بالنسبة لعثاكل البشر التي تتجمع خارج الحرم وتغص بها الطرقات المؤدية له مع الجهود المتعاظمة للأسرة المالكة في السعودية التي تتخذ من خدمة الحرمين تاجها الملكي الفخري، والتي تقضم عبر تلك الجهود الجبال وتهشم الفلل والفنادق وتعوّض لأصحابها بما يريحهم لأن الحرم أطهر من أن يضم أرضا مغصوبة، حيث بلغت التوسعات ذروتها في التوسعة الثالثة للحرم التي زادت من سعتها خطة الرؤية 2030 التي أعلن عنها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والتي يقوم الجانب المكي منها خاصة وفي ما يتعلق منه بالحرم لتمكين ثلاثين مليون معتمر في أفق 2030 وبتوسيع الطرقات حتى يسع الاتجاه الواحد منها لخمس سيارات في نفس الوقت وفي نفس الإتجاه تسهيلا للمرور اتجاه الحرم الذي يعرف زحمة بحدود الساعة من أجل قطع 2كلم في بعض المرات خاصة في العشر الأواخر وأثناء فترة الحج الأكبر .
الأمن العام والأمن الديبلوماسي وأمن الطرقات وطواقم أمنية أخرى كثيرة تعمل، وهي ترابط الليل والنهار بأقصى جهدها ودون كلل لتنظيم ضيوف فوضويين بشكل لايصدق، وفي جو لا ينفك من الزحمة، ويتسم بالهروب الدائم من النظام والخضوع لإرشادات التنظيم والاندفاع لتحقيق أمور لايمكن تحقيقها بالنسبة لحجم المكان وللتوقيت. الأمر في منتهى الصعوبة .
والحرم المدني الذي يوجد في أرض منبسطة يشعر فقط بمضايقة البقيع بالنسبة للتوسعة من جهة الشرق ، كما تضايقه الفنادق المحيطة به التي كانت بعيدة عنه نسبيا رغم أن مدينة الرسول صلى الله وسلم كلها صارت في صحن المسجد ومع مخططات التوسعة للمستقبل مازال بعضها قادرا على أن يبقى لبعض الوقت على حالته، وبذلك يظل أمره أسهل بالنسبة للحرم المكي لكنه من أصعب ما يكون في حقيقة الأمر : تسيير الحفاظ على الممرات خالية من الناس وهي معركة دائمة بسبب كثافة الناس وطموحها للصلاة في صحن المسجد ، والحفاظ الدؤوب على جو السكينة، وعلى نظافة المكان وعلى منع إدخال أي من العناصر والمواد المحظورة حيث يُنصب كرسي ضخم يبتلع قصيري القامة على طرفي كل باب من أبواب الحرم الضخمة ومرة على أحد أطرافها لمراقبة الداخلين وحيث يجلس فيه شخص مهمته اليقظة والحذر يراقب كل داخل رغم أن الداخلين ليسوا فرادى بل زرافات ويفتش الأكياس ويعينه بعض العسكريين في منتهى اليقظة وبمنتهى السلاسة بما لا يخدش الجو الديني والروحاني للمكان، وهكذا تجد أن القصد يتحد تماما : زائر للتعبد في حضرة المصطفي صلى الله عليه وسلم ، وموظف مكوّن لتمكينه من ذلك في أحسن الظروف .
داخل الحرم لا يزعجك أي شيء عادة ما تكون البخور والعطور مزعجة في نهاية يوم شاق من الصيام ومع ذلك تتنسمه الناس براحة عميقة وهو يتسلل لواذا من خارج البخّارة تاركا رائحة خاصة تليق وتمتزج بعظمة المكان وكأنها مقطوعة من روحه ، يطوف به بين الممرات أحد الموظفين بمشية "المُرمل" وكأنه متخصص في ذلك ، وهو أمر تلحظه مرات خلال اليوم خاصة بعد الفطور .
تنتشر المصاحف في رفوف معدنية كأنها مطهمة بالذهب بطبعات متعددة كلها تعود للملك فهد وهو الذي بدأت من عهده هذه التوسعات الحديثة وإنشاء المشاريع التي هدفها تحقيق الإكتفاء الذاتي للحرمين في كل ما يحتاجانه من سجادات وادوات سقاية وطباعة المصاحف والكتب الإرشادية والمصابيح وغيرها ثم الملك عبد اللَه بتوسعته المستمرة لليوم ، والتوسعة الضخمة التي يشرف عليها حاليا الملك سلمان بمطاره الجديد الضخم وقطار السكة الذي يربط المشاعر بين مكة والمدينة ،إضافة لتوكيد وتعميق المشاريع المتعلقة بالحرمين الشريفين وزيادة انتاجيتها .
ويدهشك خلال هذه المواسم الوفرة في كل شيء لا أقصد أنواع ثمرات الصناعات والحوائج ولا وفرة العملات الأجنبية وسهولة الصرف حيث تقدر بعض الإحصاءات أن دخل كل واحد من هذه المواسم يقدر بعشرين مليار دولار لكل موسم بما هو تصديق الآية "تجبى إليه ثمرات كل شيء " بل أيضا وفرة الطعام في حين لا تشاهد مصانع ضخمة ، بل كل ما يوجد في الواجهة مطاعم صغيرة من حيث الحجم والشكل يتوفر بواسطتها الطعام لكل هذا الكم دفعة واحدة دون انقطاع ،أعني توفير الطعام لأكثر من مليون شخص بين التاسعة والثالثة مساء بصفة عادية واعتيادية كل ليلة ……
يتواصل
محمد محمود ولد بكار