الجمعة
2024/04/19
آخر تحديث
الجمعة 19 أبريل 2024

محمد محمود ولد بكار يكتب: رمضان في الحرمين الشريفين... انطباعاتي(الحلقة الأخيرة)

1 مايو 2022 الساعة 21 و00 دقيقة
محمد محمود ولد بكار يكتب: رمضان في الحرمين الشريفين... (…)
طباعة

العملية الأهم من كل ذلك هي إفطار الصائم وهي مهمة أخذها الأهالي على عواتقهم بكل امتنان ويتسابقون إليها وقد تم تنظيمها بشكل رائع من طرف رئاسة الحرمين بحيث تمنح لكل من يريد المشاركة في عملية الإفطار منطقة معينة في الحرم محددة بين عدة أعمدة داخل المسجد ، وصفوف محددة في الساحات ، وهكذا ترى الباكستانيين والسعوديين والكثير من الجنسيات لديهم مناطق لإفطار الصائم .
الفطور عبارة عن تمر ولبن طازج بنكهة الجبنة وقطعة من الخبز وعصير معلب في بعض الحالات وماء زمزم ،يبدأ التحضير لوضع الفطور ساعة قبل موعد الإفطار على سماط ممدود بطول المنطقة المخصصة للمفطر وأمام كل صائم توضع هذه الوجبة ومن حين لآخر يمر شخص متطوع ويضع تمرات أو خبز أو عصير حتى تتكدس أمام كل صائم وجبة ضخمة لكن محددة في تلك العينات،فيمنع إدخال اللحوم والوجبات الغذائية الأخرى من مقليات ومشويات وغيرها كما يتم توزيع كاسات من الشاي الأحمر بالسكر وقهوة محلية وهي دائما من دون سكر وتكون بالهيل والقرنفل والزعتر أي خلطة شهية مع التمر .
وبعد الأذان ب 3 إلى 5 دقاىق يكون كل أحدٍ قد التهم فطوره لأن السماط سيتم رفعه خلال ثوان بعد ذلك مع كل ما وضع عليه وبسرعة البرق وأيضا بكل لطف وانسياق وتعاون مع الصائمين .
يتدفق صوت الأذان من كل جانب عبر مكبرات تقبع خلف مستطيلات تزين جدران الأعمدة التي يقوم عليه المسجد وتمتد معها على الطول ، قانيةالصفرة وكأنها مطلية بالذهب ،يحملك الأذان من داخلك وقد استبدت بك الرهبة ثم يلقيك في حضرة تلاوة عطرة تنقلتها المكبرات بكل أمانة وقد حافظت على مخارج الحروف بحيث يحرص الإمام أن يعطي لكل حرف حقه ولكل كلمة وآية مكانها في الوقف والاسترسال وكأنه يكرسها في موقعها تماما حتى يخيل إليك أنك تستمع للقرآن لأول مرة وقد اتضحت لك معانيه بنقاء كفلق الصبح لتعيش في أطوار الإعجاز وتنتقل إلى كنه خطاب الإلهي للبشر إنها لحظات تنساح فيه التلاوة لتطاطئ الرؤوس ثم ينقطع صوت ذلك المليون وكأن رؤوسهم قطعت دفعة واحدة وما تلبث أن تتناهى لمسامعك أصوات تجهش بالبكاءوزفرات لم يستطع أصحابها كبحها لعمق مصدرها إنها لحظات تعيش فيها بحق بحضرة الخالق .
مصابيح الحرمين لا تتقد ولا تتلألأ ولاتصدر أشعة كما في المصابيح العادية إنها تخرج ضوء لأجل الرؤية الواضحة بدون انعكاس على النظر وبدون أن يزعجك حتى لو مضت تحته أيامًا ،كما لا يؤثر عليك مع طول القراءة .
تكييف الحرم يظل على نفس الدرجة دون أن يتأثر بحجم التنفس والاكتظاظ وهو معتدل بحيث لن تشعر بالبرد مهما أمضيت تحته ،كما لا تشعر ببرودة جسمك وهكذا عند خروجك تتلاءم مع المناخ الخارجي بسرعة ….
نفس الشيء بالنسبة لماء السائغ للشرب والقائمة تطول…
لقد لوحظ من حيث التنظيم تغير كبير في طريقة معاملة السعوديين لضيوف الرحمن بعدما ما تم التحلل من سلطة "المطاوعين " وهي تسلسل وراثي لسلطة آل الشيخ الدينية وحراس العقيدة والوهابية نسبة لمحمد عيد الوهاب الذي مثّل الشرعية الدينية التي أسندها حكم آل سعود بما تمثله من تصحيح للعقيدة حتى احتكروا العقيدة الصحيحة في الإسلام وصاروا يريدون تعميمها في العالم الإسلامي بالترويج لها خارج بلادهم مستفيدين من قوة الدولة السعودية في العالم الإسلامي ومصداقية حكامها وجهودهم المالية السخية اتجاه الشعوب ، ويفرضونها كجزء من تعاليم الدين بالنسبة لزوار المقدسات خاصة فرض سلوك محدد بالنسبة لاداء المناسك ولزيارة الروضة الشريفة والمزارات الأخرى التي طمسوا أكثرها بل ويمنعون زياراتها ، وقد ظلوا يتصرفون مع الزوار بقسوة مستمدين القوة من درجة تنفيذ أوامرهم حرفيا ،ويُنزلون قاموسهم الخاص الذي تتصدره كلمة "مشرك " على كل مظهر خاطئ بالنسبة لهم رغم أنها جارحة إلا أنها ليست هنا بشحنة أو دلالة الكفر ، لكن بمفهوم عدم نصاعة العقيدة .
لقد اختار لأنفسهم مظهرا خاصا يعتبرون أنه الأقرب لسنة الصحابة : ملابس قصيرة عند نصف الساق ولحية حمراء ورأس مائل لأسفل وعصى في اليد ونظرة شزرة، وقرارات صارمة وهم بذلك يثيرون الخوف و يتصرفون وكأنهم يملكون العقيدة الصحيحة، والحقيقة المطلقة في كل شيء مستمدين حججهم من إمام معروف بتعمقه في العقيدة هو ابن تيمية البحر القطمطم .لقد كان لهم والحق يقال الفضل في تنقيح العقيدة وحماية وحدة العبادة أثناء تأدية المناسك ووحدة الحرمين وإلا لكان الحرمان مقسمين على ألف طائفة كل طائفة لها مكانها الخاص بها وحدودها داخل الحرمين وطقوسها الخاصة وطريقتها للعبادة ولكان الرهان هو حماية الناس من الاقتتال أثناء تأدية مناسكهم لكن بفضل "المطاوعين" اختفت كل تلك الفروق وتلك الطقوس من حيث المظهر على الأقل داخل البلاد المقدسة بحيث تشاهد جسما إسلاميا واحدا منسجما ولا يمكن أن تلاحظ أيا من تلك الفروق أثناء وجودك في الحرمين أو أثناء تادية المناسك، فالكل منسجم في الطريقة السعودية كما رسمها "المطاوعون" في حين أن مرض الأمة هو الخلاف المذهبي والطائفي الذي يقوم على التكفير والتجريح المتبادل ،
لقد اختفت طريقة "المطاوعين" في هذا العهد رغم بقاء بعض من تلك العادات فقد تم إنشاء الحرس الديبلوماسي وهو قطاع عسكري يقوم على تنظيم الناس في فضاء ، وداخل الحرم ورغم قساوة الظروف من حيث تداخل أوقات الذروة في الحرم وحجم الناس وفوضويتها فإنهم يحافظون على مستوى راق من التعاطي والسلوك الحميد إزاء تنظيم الناس والإجابة على استفساراتها وإرشادها إلى السبيل الذي تبحث عنه بالنسبة للجهات والمخارج وأماكن الطواف والسعي وغيرها وبلطف ، رغم أنك قد تسمع أو تشاهد في بعض الوقت أحدهم وهو يزمجر على طريقة "المطاوعين" ويعطي التعليمات والأوامر للمصلين وكأنه يصحح لهم أو يهديهم إلى الفعل الصحيح بطريقة لا تخلو من شعور بامتلاك الصواب ، لكن هذا المظهر أصبح نادرا طبعا .
الوقت في رمضان بالنسبة لمن يريد أن يدرك كل المشاعر لا يساعد كثيرا فهناك سبع صلوات أربعة منها خلال الليل (المغرب والعشاء والتراويح أو القيام والتهجد )تفصل بين كل واحدة منها عن الأخرى التي تليها ساعتان في ما مجموعه عشر ساعات وهو وقت الليل الذي يبدأ من السادسة والنصف وينتهي الرابعة والنصف بينما يتمطط النهار وهو يحمل 3 أوقات للصلاة . الحياة والنشاط والحيوية في هذه الأرض أغلبها في الليل نتيجة للمناخ وهكذا يتراجع الوقت في هذه الأرض إلى حدود الصفر بالنسبة لحجم النشاط الليلي فترى الناس تلهث وراء الوقت لتدارك حوائجها مع الحفاظ على تأدية المشاعر .
تحوّل الحرمان ومحيطهما الخارجي إلى جو من البلقنة التي فرضها حجم العمال القادمين من الخارج من بانغلاديش والهند والباكستان أساسا والذين يسيطرون على العمل اليدوي في الحرم وأعمال التاكسي والحلاقة والمطاعم ويجدون صعوبة بالغة في نطق العربية ولا -وهذا من المستحيلات -تركيب جملة واحدة صحيحة ، وهكذا تجد الجميع ينسجم في إفساد لغة التخاطب فيما بينهم بتأثير هذه العمالة المسيطرة إنه مسلٍ، والحقيقة أن قرابة 90% من ضيوف الحرمين خلال المواسم الدينية عجم بمعنى لاينطقون العربية فدولتان فقط بنغلاديش وماليزيا حجاجهما أكثر من نسبة حجاج جميع الدول العربية مجتمعة على خلفية الحصص التي تحددها السعودية بالنسبة للحج (ألف شخص عن كل مليون ) لكن تلك الفروق تنتهي عندما تدخل الناس إلى تادية مشاعرها إنه الدين الحق . إنها أوقات يحبذ لكل مسلم أن يعيشها ولو لمرة واحدة في حياته ،وهذا من معاني فرض الحج مرة واحدة في الحياة لكي يعيش المرء أيامًا منقطعا مع أوامر الخالق ومنهمك في عبادته حتى يرى ويذوق طعمها في هذا المكان المقدس الذي جعلته الأسرة السعودية رهانها الأول وهكذا يمكنك أن تقول ماشئت عن السعودية وعارضها بما تشاء لكن لاتنس أيضا أن تقول وهذا من شيم الوفاء للصدق بأن الله قيض أسرة آل سعود كابرا عن كابر لخدمة الحرمين وتوفير أحسن الظروف والشروط للزيارة الدينية وأداء المناسك فجزاهم الله تعالى خيرا عن الإسلام والمسلمين .
محمد محمود ولد بكار