الجمعة
2024/07/26
آخر تحديث
الجمعة 26 يوليو 2024

الحرب في اوكرانيا، فرصة لإعادة توازنات عديدة لمكانة افريقيا

22 يوليو 2022 الساعة 16 و29 دقيقة
الحرب  في اوكرانيا، فرصة لإعادة توازنات عديدة لمكانة افريقيا
جمال ولد محمد محامي شريك في مكتب جامنتيس وشركاؤه
طباعة

أتذكر من دروس التاريخ في الثانوية، أن الاستاذ في كلامه عن الحرب العالمية الاولى ، قد أوضح لنا وشرح أسباب الحرب العميقة والمباشرة.
اما السبب المباشر فقد كان "قتل ارشديك في سراييفو ". ولأني أسمع لأول مرة اسم "سراييفو " فقد بقيت ذكرى هذا الحدث عالقة بذهني .
كما أن الأستاذ قد بين لنا الانهماك القوي لروسيا في الخريطة الجيو سياسية للعالم آنذاك والتي كانت تلك المنطقة المضطربة مركزها .
ذكرى قد استعادتها ذاكرتي ، لأن حربا تجرى الآن في المحيط نفسه وتقودها روسيا المتعطشة إلى ماضيها إبان حكم الملوك القياصرة والامبراطورية السوفتية.
ويوما ما لا شك فيه - وربما في الحرب الاوكرانية - ستعيد مجريات التاريخ نفس الاسباب العميقة والمباشرة .
ريثما تتضح الصورة أكثر ، ها نحن وانتم معاصري ما يجري يتجلى لنا عدم مجانبة القوى الكبرى للتلاعب بسلامة هذا العالم الذى كان من المفروض ان تحافظ على سلامته، ولنا الحق في ان نتظاهر بأننا ساذجون. إذ أن هذا هو ما ينتظرونه منا نحن ونحن الأفارقة بصفة خاصة ، ولنا الحق أيضا في تجاهل معرفة ان القوى الكبرى في حرب اصطفاف وتخندق بعضها لكي يبقى سيد العالم، والبعض الآخر لرفض ذلك والعودة لعالم ذي قطبين.
ومما لا شك فيه أن إفريقيا ليست معنية بهذا الصراع ولا طرفا فيه وبعبارة أخرى إنها حرب لا تجري على ارضها، بل وليست من قبيل الحروب التافهة كحروب بيكروشلين وباترا شو ميوماشيك التي تعرف إفريقيا أسرارها .
ما أحسن ما رأي الرئيس ليوبولد سنغور في قوله: "افرقيا تعمل كقرية النمل بصمت " إنه عمل في العمق، لم تشعر إفريقيا بعد بجدواه .
وقريبا مما صور الشاعر سنغور
وبدقة أكثر رأى حميمه القديم امى سزير(aime Césaire ) في بداية القرن "إفريقيا كقلب احتياطي".
ونعم هي كذلك ولكنها كانت ولم تزل بمعزل عن لعبة الكبار..
إفريقيا كقلب احتياطي!!، نعم يمكن ان تكون كذلك.
فمن هذه الزاوية تبدو الحرب في اكرانيا فرصة لها إذا أمعنت النظر. حيث يمكنها الآن أن ترى أشياء كثيرة بمجرد تحديق العيون.

الصراع الاوكراني أظهر حاجة أوربا الماسة وعدم اسقلالها عن الطاقة الروسية.

هذه الحرب أنشبت أزمة في مجال الطاقة لا سابقة لها في دول أوربا، التي تستورد حوالي خمسين في المائة من احتياجاتها من الغاز من روسيا.
بيد أن الاكتشافات الأخيرة لحقول الغاز في إفريقيا ومو يتانيا بصفة خاصة تجعل منهم حلفاء محتملين لأوروبا لا تمكن الاستهانة بهم ولا تخطيهم .
فالغاز الإفريقي لا يسمح فقط باستقلال الدول الأوربية عن التبعية لروسيا وإنما ايضا بتخفيض ملحوظ لانبعاث co2.
وبالعودة إلى سنة 2021 نجد نسبة استيراد الغاز الروسي للاتحاد الاوربي تناهز 45%.
وأخيرا - وردا على العقوبات الأوربية - أوقفت روسيا تصديرها للغاز عن بعض دول الاتحاد: بلغاريا ، بولاندا وفينلاندا.
إذن فإشكالية التزود من الطاقة أصبحت رهانا أولويا لاوربا.
ولهذا قدمت اوربا في 18 مايو الماضي خطة REPoweeEU التي ترتكز على ثلاثة أهداف أساسية:
 تقليص الاعتماد على غاز روسيا
وتنويع مصادر الاستيراد.
⁃ ترشيد استهلاك الطاقة .
⁃ زيادة اسخدام الطاقات المتجددة..
وهدف هذا البرنامج الأول والأخير هو : تخفيض استيراد الغاز الروسي إلى النصف في نهاية 2022 وتوقيفه نهائيا سنة 2027.

إمدادات الغاز الافريقي: بديل مستدام لأوربا .

تصنف حاليا افريقيا وموريتانيا على وجه أخص فاعلا من الدرجة الاولى لحل مشكل الطاقة للاتحاد الأوربي .
وفي الدراسة الاخيرة ل Rystad فإن قدرة إنتاج الغاز الافريقي يمكن ان تصل في العقدين التاليين الى 75 بالمائة من الغاز المنتج سنويا في روسيا.
وثمت حقول مهمة اكتشفت مؤخرا في العديد من الدول الافريقية، ففي موريتانيا والسينيغال حقل السلحفاة واحميميم يعتبران من أكبر الحقول في افريقيا بإنتاج سنوي يقدر بمليونين ونصف طن في السنوات الأولى من الاستغلال ، وعشر مليون طن سنويا في آفاق 2026.

معروض من الغاز أكثر احتراما للبيئة

ليس الغاز الإفريقي بديلا لغاز روسيا فحسب وإنما هو كذلك يستجيب للأهداف التي حددها الاتحاد الأوربي فيما يخص التنمية المستديمة.
لنتذكر أن الغاز الطبيعي هو الطاقة الأقل تلويثا ب 30 إلى 50 في المائة بالانبعاث الحراري ال co2 بالنسبة لمصادر الطاقة الأحفورية الأخرى.إضافة إلى أن استغلال الغاز الإفريقي يسمح بتخفيض استيراد الغاز الصخري الأمريكي المعروف بتأثيره على التربة والمياه نتيجة التكسير الهيدروليكي للصخور الجوفية التي يستعصي الوصول إليها.
وهنالك ميزة أخرى لا تقل أهمية ألا وهي قرب إفريقيا الجغرافي من أوربا وهي ميزة إستراتيجية للدول شمال البحر المتوسط فنقل الغاز المسال من أمريكا يتطلب من 12 إلي 16 يوما ، والشيء نفسه ينطبق على الغاز القطري.
وموريتانيا والسينغال اللتان بصدد استغلال الغاز المسال يسمح قربهما بتوصيله خلال 3 إلى 5 أيام بحرا أو برا، فضلا عن سهولة التخزين والتقليل من إنبعاثات الكربون على مدار دورة الاستغلال بأكملها ولا سيما في نقله.
واليوم تسمح لنا هذه المرحلة من الصراع في أوكرانيا -والتي لم تعد أوكرانيا فيها سوى بيدق- أن نرى الأزمات الحقيقية أو المصطنعة وإلى أي مدى قد أظهرت أن إفريقيا يمكن أن تكون مخزون أمل ورخاء.
ويمكن لإفريقيا أيضا أن تكون مخزونا للحبوب والبذور الزيتية الموجودة في أوكرانيا التي تضاهى بالكاميرون لوحدها أو إحدى دول القارة الخضراء كجمهورية الكونغو الديموقراطية.
وبما أن المزروع من القارة الإفريقية الشاسعة أقل من 15 في المائة من أراضيها الصالحة للزراعة فيمكن لإفريقيا -لا شك- أن تصبح سلة حبوب العالم.
لكن هل من الضروري حقا التحدث عن الموارد الطبيعية؟ وهل ستكون الدول الإفريقية قادرة على اغتنام هذه الفرصة لتحتل المربع الذي تستحقه على رقعة الشطرنج الدولي؟
لا يمكن إلا أن نأمل ذلك.
كما أن موريتانيا بكثرة إمكانياتها التي لم تستغل بعد قد تقدم نموذجا حيا لهذا الأمل الإفريقي.

قلتم موريتانيا!

الموريتاني مثل أرضه التي كما يراها الكاتب الفرنسي Antoine de Saint-Exupéry, أرضا قاحلة ولكنها معطاء ، أذكر أن أحد أصدقائي قدم لي ملاحظة فحواها: أن الدول الافريقية تشكو من كونها ضحية الانقلابات المنظمة من الخارج.
لكن موريتانيا التي لم تعرف لخمسة عقود الا الانقلابات للتبادل على السلطة لم تشك من التدخل الخارجي يوما بل امتازت بكونها لم تشهد انقلابات آتية من الخارج.
قمنا بانقلاباتنا بأيدينا كالكبار ، ثم أتى يوم قلنا فيه : إنه حان وقت الخروج من التحارب بين بعض الجهات والقبائل وتنظيم انتخاباتنا كالدول الكبار.
والبلد اليوم من أحسن الدول الإفريقية في هذا المسار وهو أيضا ضامن وعامل استقرار في دول G5 بالساحل التي كانت من قبل مرتعا للتطرف.
ثم إن اقتصاد البلد الذي كان ضعيفًا أصبح في طريق التعافي .
فإذا كنتم زرتموها قبل عشر سنوات فلن تعرفوها إذا عدتم إليها اليوم ، من المطار الجديد إلى المدينة الحديثة نواكشوط مرورا بالطريق المضيء الموصل إليها.
أوليس هذا باعثا على التساؤل لماذا الجمود في استغلال ثرواتنا الطبيعية؟ أترك لكم تقدير ذلك.

استغلال المعادن
شركة ميفرما التي تأسست زمن المستعمر الفرنسي كانت تستخرج 11 مليون طن من الحديد سنويًا بوسائل بدائية والآن مع الوسائل التكنولوجية المتقدمة لا تزال اسنيم التي حلت محلها تراوح عند انتاج 12 مليون طن.
زد على ذلك أنه لا يوجد لديها مخبر متقدم ذو مصداقية وليس لها مصنع لإثراء المعدن الخام.
ومنذ 60 سنة لم تنشئ موريتانيا مدرسة للمهندسين إلا أخيرا لتكون لديها يد عاملة مؤهلة.

الثروة الحيوانية
البلد لديه 30 مليون رأسا من الحيوان وبالنسبة لدولة سكانها 4 ملايين فالحيوانات تربو بأضعاف على السكان ، إنها أكبر من دولة نيوزيلاندا المعروفه بأنها دولة للتنمية الحيوانية ومع ذلك فكل ما لديها أقل من 3 ملايين رأس من الأغنام وسكانها 5 ملايين.
أليست هذه الثروة مصدر اطمئنان لنا وفخر .
إن الإمكانيات أكبر بكثير من حجم الاستغلال الموجود لدينا.ولا تزال التنمية الحيوانية تقليدية، هب أن أحد الأجداد البعيدين بعث من الأجداث فلن يتفاجأ بما استجد بعده ، لأنه لم يتغير ما كان يعرف فسيرى الإبل والغنم ترعيان المساحات الشاسعة في الصحراء ويرعاهما شاب متخلف خارج عن الزمن.
فلا حظائر حديثة ولا وسائل حديثة ولا حتى أي مسلخ فيه أبسط متطلبات النظافة.

الصيد
إذا كانت مصر هبة النيل ، كما قال هيرودوت ، فيمكن لموريتانيا أن تصبح هبة المحيط.
ففي الواقع ، تتجاوز إمكانات إنتاجها السمكي 1.8 مليون طن. ومع ذلك ، فهي لا تنتج عُشر هذه الإمكانات ، وبالكاد تنتج 150 ألف طن لا أكثر ، ومن هذا الإنتاج المنخفض بالكاد يمكنها تخزين النصف (70000 طن) ولا يمكنها تجميد الا الثلث (50000 طن). ووسائل المحافظة على هذا الكنز بدائية.
فضلا عن ضعف مراقبة السواحل التي تجعل من غير الممكن تأمينها. والبحوث الأوقيانوغرافية محدودة والإدارة لا تستطيع تنفيذ سياسة موارد ناجعة موثوقة لأنها لا تملك دراسات جادة.

المستوى الاجتماعي والسياسي.
ومع ذلك ، فعلى المستوى السياسي ، تسير الأمور على ما يرام. ففي المجال السياسي الأمور متقدمة وجيدة وتشهد انتقالا للسلطة مرنا وهادئا ويتم تسيير الحدود بشكل أفضل بل ومع جودة عالية.
وقد حققت في المجال الاجتماعي في التوزيع على أفقر الناس على وجه الخصوص تقدمًا كبيرًا. وتحسنت التغطية الصحية ، -وهي واحدة من أفضل التغطيات في القارة- وضاعفت الدولة صرف مخصصات المعاشات ووضعت خطة مساعدة مالية لفائدة الفئات المعدمة . في حين شهدت إمدادات مياه الشرب والكهرباء نموًا متسارعًا .
ونظرا لكل هذه الإنجازات في المجالين الاجتماعي والسياسي ، فإننا مرتاحون جدا.
ويمكن ان نقول بكل موضوعية ان الجهود وجهت أساسا من أجل تهدئة البلد وتقوية الدولة وتقوية العرض الاجتماعي ومن أجل توفير الخدمات الأساسية، كما نجحت الحكومات المتعاقبة في أن تحقق مقاربات لمحاربة الرشوة و الفساد واختلاس الأموال العامة .
لذلك ومن هنا فقد حان الوقت للانتقال إلى الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية لبلدنا، لإيجاد مكان مرموق له في الساحة الدولية.
فبإمكان موريتانيا أن تصبح شريك طاقة موثوق لأوروبا مادام يجب أن يكون لأوروبا حلفاء في القارة الأفريقية لتنويع مصادر إمدادها بالطاقة.
وإن كان يجب أن يكون لهذه الدول مصداقية واستقرار أمني وسياسي .
فإن موريتانيا تستوفي من بين الدول المنتجة للغاز الآن كل هذه المواصفات التي هي بمثابة شروط. كما أنها أبرزت نفسها كشريك مقنع قادر على تطوير البنية التحتية اللازمة لتصدير الطاقة إلى أوروبا.
كما أظهرت مرونة كبيرة في مواجهة الأزمات والتحديات الأمنية المختلفة على مدى السنوات العشر الماضية. فموريتانيا لديها الآن جهاز أمني فعال وجيش ذو جاهزية عالية، وهذا ما يجعلها شريكًا مستقرًا وحليفًا يعتمد عليه في هذه المنطقة من الساحل.

جمال ولد محمد محامي شريك في مكتب جامنتيس وشركاؤه