الخميس
2024/05/16
آخر تحديث
الخميس 16 مايو 2024

التوريث، الاستقلالية، البناء: السعودية تحسم ثلاثة خيارات استراتيجية عظيمة في آن واحد

26 سبتمبر 2023 الساعة 13 و22 دقيقة
التوريث، الاستقلالية، البناء: السعودية تحسم ثلاثة خيارات (…)
طباعة

التوريث، الاستقلالية، البناء:
السعودية تحسم ثلاثة خيارات استراتيجية عظيمة في آن واحد
١- خيار التوريث
يعد ذلك جزءًا من قصص النجاح السعودي خلال هذه الحقبة.
لقد ظل المجتمع السعودي مجتمعا رجاليا أبويا صارما، وكان الحكم يعكس ذاتية وحضور كبار السن بالدرجة الأولى. الانفجار الديمغرافي الذي شهدته السعودية مثل أغلب دول العالم الثالث، جعل الشباب (قرابة 70% من المجتمع السعودي) على درجة وعي متزايد وتوق للمشاركة في تحريك دفة العملية التنموية الوطنية، وصاروا، بدفع من الثورة الاعلامية والولوج لوسائل التواصل الاجتماعي، يتطلعون إلى انعكاس صورتهم في القرار الوطني في شخص يرمز لهم، ويفهمهم، ويحمل مواصفاتهم وتطلعاتهم، ويعرف انشغالاتهم، ويلبي مطالبهم العامة، ويلبس لباسهم، ويتكلم لغتهم ويتدفق نشاطا وحيوية بالمختصر المفيد ملك شاب .
لقد دخلت المنطقة العربية والعالمية طور القيادات الشابة بداية من سوريا والأردن، ومن ثم قطر والإمارات وسلطنة عمان والمغرب والكويت نسبيا وفرنسا وكوريا الجنوبية وغيرها، لكن السعودية، فضلا عن ذلك، لها مميزات وصعوبات خاصة بوجود أسرة ملك كبيرة وبتقاليد صلبة، فكانت عملية الانتقال للمواءمة بين الحفاظ على تقاليد الأسرة والانتقال إلى مقتضيات التحولات الضرورية لمواكبة عالم اليوم تشكل معضلة حقيقية للدولة السعودية ورهانا للحكم، ولن تكون سلسة إذا ما تركت من دون تحضير. وقد كان من حسن الحظ أنها في وضع متميز يصعب تكراره مرتين.
عملية التحول في تغيير آلية "تعيين الملك المقبل" التي وقعت، كانت ثورية وصادمة لتقليد أصبح من الضروري تجاوزه حيث يعتمد على عامل السن. ومن الواضح أن هذا وحده لم يعد يكفي بالنسبة للشرعية الاجتماعية، وحيث كانت العملية قوية لدرجة قد تهز أركان الدولة، كان لابد لها من غطاء شرعي واسع، وهكذا يمثل الملك سلمان، خارجا عن كونه الملك الحالي، الأب الاجتماعي لأسرة آل سعود بدون منازع، والمسؤول عن حل مشاكلها الداخلية. وظل يتمتع بهذه الشرعية حتى مع وجود إخوته الملوك الذين يكبرونه سنا. لقد كان يرى أنه لابد من حسم معضلة الوريث الشرعي للسلطة التي لا بد أن تطرح أمام الأسرة يوما ما، وبالتأكيد بصفة لا يمكن التحكم في مآلاتها بسبب تشعب المصالح واتساع رقعة الطموح داخل أفراد الأسرة ووجود أطماع خارجية خطيرة. إن الانتقال من جيل لآخر حسب حاجة البلد والتقلبات المحيطة به وتغيير المعطيات على الأرض، وفي ظل الحفاظ على قواعد الأب المؤسس، أي الاستقرار، ووجود فاعلين متعددين يتربصون بها، كان أكبر تحد على مستقبل استقرار السعودية، وهكذا كان توريث محمد بن سلمان أحد أصغر الأبناء، مشكلة بالنسبة لتقاليد الأسرة، لكنها في نفس الوقت كانت لضبط عقارب الحكم، وهذا هو الأهم، فنحن نتوقع -حسب متوسط عمر الأسرة- استقرار الحكم 50 سنة قادمة وهي فترة مثالية لتغيير القواعد العامة للسياسات الداخلية والخارجية وبناء قطب اقتصادي . وهذا ما يحتاجه التأسيس الانتقال من وضع فكري ايديولوجي إلى وضع أرقى وأكثر مواءمة مع قواعد العصر . محمد بن سلمان -حسب كل فراسة- يحمل خصائص الحكم ومميزات الزعامة: الإقدام، وقوة الشخصية، والوعي بالأهداف، والصرامة. لقد ظهر أثناء أكثر الأزمات التي تعرض لها شامخا وفخورا بنفسه بين زعماء العالم رغم سحابة التأجيج والشحن العاطفي والضغط الإعلامي التي كانت تظله على خلفية ملف "خاشقجي". إنه توازن استثنائي في مثل سنه.
2- خيار الاستقلالية
لقد اتخذ محمد بن سلمان منذ الوهلة الأولى نهجا وقرارات انفتاحية قوية لم يكن غيره ليتخذها في السعودية، وكانت كلها خروجا عن المألوف بالنسبة للتنظيم الداخلي. صحيح أن ما يسميه محمد بن سلمان الاصلاح الضريبي يتعارض مع أهل "الفروع الفقهية" الذين يعتبرونه جزية على المسلمين خاصة المقيمين والمجاورين، ويكون ذلك أكثر مدعاة للامتعاض في حالة بلد في وضع مالي مريح ويقوم النظام فيه على أساس ديني، ومع ذلك فقد تحرك الاقتصاد السعودي من خلال عملية الدفع الذاتية التي أحدثها ذلك القرار على مجهود العمالة للحفاظ على قانونية إقامتهم في السعودية، كما قام بمحاربة فساد عميق في الدولة، وكذلك محاربة تغوّل النافذين داخل الأسرة وتحجيم قبضة المطاوعين على الدين والتسلط على المرأة، وأكثر من ذلك الطموح الاقتصادي والتحديث السعودي. لا شك أن ذلك كان بمباركة الأب الذي أخذ إعلانات قوية بتغيير في الخط الديبلوماسي والسياسي للسعودية بحيث قام بزيارة روسيا واستقبل الرئيس الصيني في الرياض وتبنى سياسية "صفر عدو" في المنطقة بعد غلق الملفات الساخنة (قطر واليمن وتركيا وسوريا وإيران ). وقد كانت الرسالة الصريحة في هذا التوجه تلك التي بعث بها محمد بن سلمان في استقباله لبايدن في جدة عند باب القصر والاكتفاء بمصافحته له، والانتقاد الصريح لسياسة الولايات المتحدة بالكيل بمكيالين، ففي حين يطلق الاعلام الموالي للغرب ساقه للكذب والتشنيع ضد محمد ولد سلمان، يدافع عن ناتنياهو في قتل شيرين أبو عاقلة: إنها مواقف ثورية بالنسبة للخط السعودي التقليدي. نحن الآن أمام سعودية مختلفة عندما نضجت الظروف، وأمام شخصية قيادية تستلهم الدروس، لذلك هو بحاجة للدعم الداخلي والخارجي ويتعين ذكر تفصيل مهم يتعلق بإدارة الحكم السعودي الداخلي حيث لابد من وريث لشرعية اجتماعية للأسرة مثل ما كان يقوم به سلمان وهو خارج الحكم: يسير تعقيدات الوضع الداخلي لكي يترك للملك الشاب كامل الوقت لمجابهة برنامجه الهائل الطموح.
لقد بدأت السعودية تعبر عن ذاتيتها في السياسة الدولية، وتبحث عن مصالحها الاقتصادية من أجل تحديث مجتمعها والانتقال من الاعتماد على ريع النفط إلى ريع التخطيط، والانفتاح والبحث عن فرص تطور اقتصادي واسع يعتمد على التكنلوجيا وتثمين الموارد الوطنية الأخرى في إطار البرنامج الكبير 2030 للنهوض بالسعودية شعبا واقتصادا وتنظيما.
وهكذا بالانتقال من أكبر دولة للتسلح بسبب هوس حرب مع أعداء وهميين إلى استراتيجية سلمية وتحويل الهاجس الأمني والعسكري إلى هاجس اقتصادي تنموي، ستتغير السعودية طبعا .
إضافة إلى كل ذلك، تقع السعودية في منطقة وشبه منطقة تشهد تزايد الدول العظمي من عمليات التحديث الذاتية (تركيا وإيران وإسرائيل)، وتزايد الأدوار السياسية الدولية حتى للكيانات الصغرى مثل قطر والإمارات على حساب السعودية وكيان الخليج نفسه، وهكذا -مرة أخرى ومدعاة للاحترام- تجد السعودية نفسها مضطرة للتطور والانبلاج.
هناك تغييرات هائلة في النظام الدولي والكثير من الأمم تريد دخول قمرة القيادة العالمية، والدول العربية وحدها لا تملك القوة ولا الطموح المناسب لذلك، فقد تم تحييد الدول الكبرى (مصر، والعراق مثلا) ودول الصف الثاني (سوريا وليبيا). السعودية وحدها اليوم مؤهلة للدخول في المعركة بما لها من تأثير على معركة تجريد الدولار من الهيمنة وكذلك العمليات المالية المرتبطة به مثل "سويفت": نظام التحويلات المالية الدولي، في نفس الوقت تملك احتياطيا هائلا من الذهب في تخوم الأرض، ينضاف إلى ذلك طموحها للتحديث وشرعيتها العربية حيث لم تعد مصر تملأ كرسي شرعية القيادة العربية، وشرعيتها الاسلامية رغم تعرجات أردوغان الذي يريد أن يكون زعيما إسلاميا وفي نفس الوقت عضوا في الاتحاد الأوروبي والناتو الذي من مقتضياته مواثيقه محاربة الاسلام. هذه المرتبة تجعل السعودية إضافة إيجابية للحلف الذي تعلن نفسها فيه. صحيح أن أي معالم بارزة لتغيير السياسة السعودية من الغرب ليست واضحة بما فيه الكفاية لدرجة التنبؤ بالانتقال إلى حلف جديد ومعاكس تجد فيه ذاتها بحسب طموحها القوي مثل بقية بلدان العالم التي تطمح للتخلص من الهيمنة الامريكية، لكن عدم حفاوة ولي العهد، كامل السلطة، محمد بن سلمان بالرئيس الأمريكي في المطار، وحتى وهو يستقبله في القصر، وطريقة المصافحة، وتغير مفردات الخطاب السعودي كما ظهرت في المؤتمر الصحفي المشترك بانتقاد الولايات المتحدة وسياسية الكيل بمكيالين وتوبيخ السعودية في قضية خاشقجي و"تمجيد" اسرائيل في قضية شيرين أبو عاقلة وخرق الولايات المتحدة لحقوق الإنسان في العراق (خاصة سجن أبو اغريب) مظهرا جديدا في سياسية السعودية وخروجا عن عرفها الديبلوماسي.
لم يذكر محمد بن سلمان في خضم الثورة الحالية ضد هيمنة الدولار التي تقودها الصين وروسيا ودول أخرى، أن السعودية هي التي ساهمت في دعم الدولار عندما وافقت على أن يتم بيع النفط بواسطة الدولار حصرا، وهي بذلك اليوم ضمن الدائرة الضيقة من الدول التي يمكنها سحب الثقة من الدولار عندما تعتمد عملات أخرى. وهنا تبرز تغييرات جذرية في عقلية الحاكم السعودي أخذت تتحدد في عهد محمد بن سلمان منبئة برفع سقف طموح المملكة: من البحث عن حماية خارجية إلى السعي إلى الاستقلالية في القرار ولعب دور بارز في قيادة العالم.
لا يمكن تقييم دور السعودية حاليا بتسارع وتيرة النمو لهذه السنة (9,9%، الأفضل من بين مجموعة العشرين، كما سجلت فائضاً في الميزانية قدره 20.8 مليار دولار) خلال الربع الثاني من هذا العام، وإنما بناء على الإصلاحات الداخلية، خاصة السعي إلى تحويل دخل النفط إلى اقتصادات مستديمة جعلته يعبر عن نفسه في بعض المواقف .
إن فرصة السعودية، كغيرها من الاقتصادات الناشئة، ستكون أفضل في حل بنية النظام العالمي القائم الذي تجد فيه الدول الكبرى نفسها تابعة لنظام أحادي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا ما جعل حكامها الحاليين يتعاملون معه بذاتية أكبر .
3- خيار البناء
لقد أطلق محمد بن سلمان خطة إقلاع الاقتصاد السعودي في أفق 2030 وتحويله من الاكتفاء بريع النفط إلى اقتصاد متطور ومتنوع وأكثر قدرة على الصمود أمام الأزمات التي تعصف بالعالم، كما دخل معتركات عنيفة داخلية وخارجية بدأت بالصدمة الداخلية من تحجيم دور "المطاوعة" ودور القيادات الدينية، وصولا لتمكين المرأة وتثمين دورها في الاقتصاد والمجتمع، محدثا بذلك تغييرات جوهرية في السياسة السعودية، وكذلك ضرب بعض اللوبيات التي كانت تستحوذ على جزء كبير من عائدات البلاد عن طريق الصفقات الفاسدة. كما امتدت الإصلاحات مع تغيير تدريجي لمواقف المملكة الخارجية التي اتسمت بمرونة أكثر في سبيل تحقيق الاستقرار الاقليمي كما حصل مؤخرا من تثبيت للهدنة في اليمن وطي ملف الأزمة مع قطر. وليس المعيار هنا نجاحها في ذلك من عدمه، لكنه يكمن في الفهم الجديد في نظرة السعودية لدورها وصورتها الخارجية وحجمها الذي يحاول النظام الافصاح عنه في شكل مواقف جديدة للبلد على الساحة الدولية. كما ينضاف إلى ذلك تثمين القطاعات الاقتصادية الأخرى وليس النفط وحده لتطوير قاعدة صناعية وإحداث ثورة رقمية من خلال تطوير السياحة والخدمات وتحديد هدف ذاتي ضمن إطار المنافسة والاداء الاقتصادي العالمي، وهي خطة رصدت لها ميزانيات ضخمة.
لا يستهدف هذا التوجه التنظيم الداخلي فقط، بل يتضمن أيضا البحث عن مرتبة ودور خارجيين.
العقلية الحالية الحاكمة للسعودية لم تعد تعتبر أن الصين وروسيا، وريثتا للفكر الشيوعي الملحد ، بل دولتان قويتان يجب التعامل معهما خاصة أنهما تقدمان نموذجا أخلاقيا يخضع لقواعد المنافع المتبادلة . كما تقع السعودية -مثل باقي دول العالم- ضحية للنظام الاقتصادي العالمي الذي فرضته الولايات المتحدة عندما تخلت عن ضمان الدولار بالذهب "فقد كان مقابل كل أوقية (أونصة من الذهب) 35 دولارا، وعندما حلت الكارثة بالعالم الذي امتلأ من الدولار الذي لم يعد له رصيد، قال نيكسون حينها كلمته الشهيرة: "يجب أن نلعب اللعبة كما صنعناها، ويجب أن يلعبوها كما وضعناها". لقد كان هذا هو فحوى النظام الاقتصادي العالمي الذي يتحكم في العالم، فهل بدأ العد التنازلي للهيمنة الأمريكية مع الإرهاصات الحالية!؟ أو هل هذه التوترات الواسعة التي اتسم بهذا العقد الثاني من هذا القرن هي تجليات لواقع عالمي جديد تتغير فيه الموازين الدولية ؟وأين موقع السعودية وفق تطلعات محمد بن سلمان؟.
لن يكون الخروج من ربقة هذه اللعبة بسيطا ولا سهلا، سيتطلب حروبا طويلة الأمد لأنها تخدم أهدافا استراتيجية عميقة وترتبط بلاعبين أقوياء وبتغيير سياسة العالم، وليست مثل الحرب على الإسلام التي لم تدم طويلا بعدما تم ابتلاع كل المدخرات والودائع العربية والإسلامية في البنوك الغربية، ووضعت التوجهات في حالة سلم استراتيجي مع إسرائيل وتصفية أعداء هذا المشروع من الزعماء والقادة العرب ووضع النظام العربي في تبعية تاريخية للغرب، وتم الحفاظ على شعار الحرب على الإرهاب لدعم استمرار تلك السيطرة. وفي هذا الخضم ووفق الخطوات التي يخطو بها محمد ولد سلمان نتوقع دورا كبيرا للسعودية قد ينهض بالأمتين الاسلامية والعربية.

الاإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار