الخميس
2024/03/28
آخر تحديث
الخميس 28 مارس 2024

أثر السلامة اللغوية في حسن أداء الرسالة الإعلامية / الحسين بن محنض

7 يناير 2023 الساعة 14 و47 دقيقة
أثر السلامة اللغوية في حسن أداء الرسالة الإعلامية / (...)
طباعة

ألقى الإعلامي الحسين بن محنض صباح اليوم السبت بمجلس اللسان العربي بموريتانيا محاضرة بعنوان: "أثر السلامة اللغوية في حسن أداء الرسالة الإعلامية".
وهذا نص المحاضرة التي ألقيتها قبل قليل في الندوة التي ينظمها مجلس اللسان العربي بموريتانيا برئاسة الشيخ الخليل النحوي حول لغة الإعلام بمقر السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية التي تشرف على هذه الندوة في إطار فعاليات انواكشوط عاصمة للثقافة الإسلامية سنة 2023:
محاضرة بعنوان:
أثر السلامة اللغوية في حسن أداء الرسالة الإعلامية
الحسين بن محنض
المحور الأول: اللغة والإعلام التأثير المزدوج
لا يكاد يوجد شيئان يؤثر كل منهما في الآخر بصورة متزامنة كاللغة والإعلام، وذلك أنه إذا كانت اللغة هي وسيلة الإعلام للقيام بمهمته الإبلاغية فإن الإعلام هو وسيلة اللغة للقيام بمهمتها الوظيفية، فكلاهما يتأثر بالآخر ويؤثر فيه.
وهكذا يظهر لنا الاستقراء التاريخي للعلاقة بين اللغة العربية وبين الإعلام أن هذه العلاقة مرت بطورين رئيسين:
الطور الأول: طور الإعلام المحافظ على أكثر أصول اللغة وقوانينها واستعمالاتها
وقد دامت مدة هذا الطور تقريبا قرنا من الزمان (من صدر القرن التاسع عشر إلى صدر القرن العشرين)، قبل أن يفسح المجال للطور الثاني الذي بدأت بوادره تتبلور في صدر القرن العشرين وهو طور الإعلام المتحرر من بعض أصول وقوانين واستعمالات اللغة كما نعرفها.
ذلك أن ظهور الصحافة العربية وذيوع مسمياتِها وفق ما استقيناه من نصوص منشورة على شبكة الانترنت بدأ في صدر القرن التاسع عشر، حيث أصدر الوالي داود باشا أول جريدة عربية في بغداد باسم جورنال عراق، باللغتين العربية والتركية عام 1816، وفي عام 1828 أصدر محمد علي باشا في مصر صحيفة رسمية عرفت باسم الوقائع المصرية، هكذا سماها رفاعة الطهطاوي، وذلك بعدما كانت حملة بونابرت 1798 - 1801م قد أصدرت صحيفتين بمصر باللغة الفرنسية.
أما أول من استعمل لفظ الصحافة، بمعناها الحالي فهو الشيخ نجيب الحداد، منشئ جريدة لسان العرب في الإسكندرية.
وفي عام 1858 أنشأ خليل الخوري، حديقة الأخبار في بيروت وأطلق عليها اسم جورنال بالفرنسية، قبل أن يروج مصطلحا الصحيفة والجريدة، الأول روجه اللبناني رشيد الدحداح، صاحب برجيس باريس، والثاني روجه أحمد فارس الشدياق اللبناني أيضا، صاحب الجوائب في القسطنطينية، أما القس لويس صابونجي فاختار لفظة النشرة، وشاع استعماله هو الآخر، كما استعمل كل من مسميي الورقة والرسالة ثم مسميا الأوراق والمجلة الذي ظهر مع إبراهيم اليازجي سنة 1884، لتظهر مصطلحات الإعلام ثم الاتصال ثم التواصل بعد ذلك في مراحل لاحقة من القرن العشرين.
وحيث إن جل المشتغلين بالصحافة في عهودها الأولى كانوا من الضليعين في اللغة وآدابها، فقد اجتهدوا في المحافظة على أصولها وقوانينها واستعمالاتها المعروفة في الوقت نفسه الذي جنحوا فيه للإيضاح والابتعاد عن التعقيد وتجنب المحسنات اللفظية والمعنوية مراعاة لحال المتلقين. وكان الإعلاميون والكتاب والجمهور جميعا في العهد الأول للإعلام حراسا للغة وحماة لها بعضهم من بعض، يصوبون، وينبهون، ويناظرون، ويشنون الغارات على كل من حاد عن جادتها، لكن توسع صناعة الإعلام وانتشاره وتزايد دخول أناس أقل معرفة وإتقانا للغة العربية في مجالات الإعلام المتعددة مع الزمن، والتواصل بين الثقافات المختلفة، وانتشار الترجمات وتأثيرها في البنية اللغوية الإعلامية جعل قبضة هذا الطور المحافظ على أصول وقوانين واستعمالات اللغة المألوفة تتراخى مع الوقت.
الطور الثاني: طور الإعلام المتحرر من بعض أصول وقوانين واستعمالات اللغة المعروفة
لم يظهر طور التحرر من بعض أصول وقوانين واستعمالات اللغة المعروفة في الإعلام العربي بصورة مفاجئة، بل جاء نتيجة لمسار طويل ومتدرج بدأ مباشرة بعيد نشأة الإعلام العربي نفسه، ولم يزل يتسع وينتشر إلى أن صار جليا ملموسا مع انصرام المائة سنة الأولى من عمر الصحافة العربية، أي في صدر القرن العشرين، وما يزال هذا الأمر في اطراد إلى يومنا هذا.
وقد تميز هذا الطور بـ:
1- ظهور تراكيب واستعمالات لغوية جديدة في الإعلام ناتجة عن الترجمة من اللغات الأجنبية خاصة الانجليزية والإسبانية والفرنسية والإيطالية، فدخلت تراكيب وعبارات لم تكن معهودة في العربية.
2- ظهور تراكيب واستعمالات لغوية جديدة في الإعلام ناتجة عن تسرب اللهجات العربية إلى اللغة العربية الفصيحة، ساعد على انتشارها بروز نوع جديد من الإعلام هو الإعلام الإذاعي ثم التلفزيوني وظهور أعمال إعلامية (أحاديث، مقابلات، مسلسلات، أفلام...الخ) باللهجات العربية بدل الفصحى.
3- تسرب الأخطاء إلى الكتابة الإعلامية ألفاظا وتراكيب واستعمالات وذيوعها بسبب تراجع المستويات اللغوية للممارسين للمهنة الإعلامية والمتلقين لها على حد سواء.
المحور الثاني: انعكاس مدى السلامة اللغوية على أداء الرسالة الإعلامية
وهكذا أثرت هذه العوامل مجتمعة على السلامة اللغوية بدرجات متفاوتة فاستعملت عبارات خطأ وأخرى في غير محلها أو لغير معناها، وظهرت صيغ وتراكيب لم تكن مألوفة في مجال الاستعمال اللغوي، كشيوع بدء الجملة الفعلية بالاسم، وتكرار عطف المضاف، وتعدية الأفعال اللازمة، وعدم التمييز بين الهمز الوصلية والقطعية، وعدم معرفة قواعد التثنية، وقواعد جمع الأعداد وغيرها، والأمثلة لهذا كثيرة. وكل هذا أثر في حسن أداء الرسالة الإعلامية وفحواها، وذلك من وجهين رئيسين:
الوجه الأول: هو وجه زعزعة ثقة المتلقي للرسالة الإعلامية في مرسل هذه الرسالة بسبب ما يرتكبه من أخطاء، واضطراب فهم المتلقي لهذه الرسالة، مما يدفعه إلى عزوف عن الاهتمام بها، وهذه عوامل تؤثر كلها في نجاعة حسن وصول الرسالة الإعلامية وتأثيرها.
الوجه الثاني: هو وجه انحراف الرسالة الإعلامية وانحرافه بسبب تغير معناها عن المعنى المقصود، وهذا الوجه أخطر من الوجه الأول لأنه يذهب بالمتلقي إلى معاني لم يقصدها الإعلامي الباث للرسالة، ولهذا الوجه أيضا أمثلة كثيرة، حيث تجد أحدهم مثلا يقول: لا زالت المعارك متواصلة بين روسيا وأوكرانيا وهو يريد أنها ما زالت متواصلة، ولم يدر أن جملته تلك كانت إنشائية طلبية بمعنى الدعاء ولم تكن خبرية، وتجده يقول: هذا تصرف خاطئ، ولم يدر أن معنى خاطئ آثم وهو يريد الخطأ لا الإثم، وتجده يقول: بالرفاه والبنين وهو يقصد بالرفاء الذي هو الانسجام والتوالف والتواد لا الرفاه الذي هو الخفض والتنعم، ويقول: تواجدُ المسؤولين وهو يقصد الوجود الذي هو بمعنى الحضور لا التواجد الذي هو بمعنى سريان الطرب إلى حركات الأعضاء. وتجده يقول: القرن الواحد والعشرين وهو يريد القرن الحادي والعشرين لأنه يقصد رتبة المعدود لا عدده، وهكذا تتعدد الأمثلة في هذا الباب أيضا ملحقة ضررا بليغا بالرسالة الإعلامية وحسن أدائها، وفي الوقت ذاته باللغة كذلك، فكم تسرب إلى اللغة لفظ او اشتقاق أو تصريف أو تركيب كان خطأ فأصبح مألوفا كجمع مدير على مدراء بدل مديرين، ومشكلة على مشاكل بدل مشكلات، ونية على نوايا بدل نيات، وكم دخل عليها من عبارة أو استعمال مخالف للأصول أو المألوف كتعدية فعل أكد بعلى في قوله أكد على الأمر وهو يقصد أكد الأمر، والجر بعلى بدل في في قوله حدث على الساعة كذا بدل في الساعة كذا، وعدم مطابقة النعت للمنعوت في قوله مثلا الوزير أو النائب البرلماني فلانة بتذكير الصفة وتانيث الموصوف، وهذا مما لا تعرفه العرب فإنها لم تذكر من الأوصاف المؤنثة إلا ما لا تشارك فيه الأنثى الذكر كحائض وحامل وطالق، وليس باب التأنيث والتذكير في لغة العرب من الأبواب القياسية بل هو سماعي محض، وكل هذا من الأخطاء والاستعمالات غير المألوفة التي تؤثر في حسن أداء الرسالة الإعلامية.
وأختم بالقول إن تلاقح الثقافات وتطور اللغات أمر حتمي لا مناص منه، وهو محمود ومفيد وضروري ما دام مضبوطا بضوابط اللغة الأساسية الحافظة لها، غير أنه إذا انفتح الباب وانعدمت الضوابط وكثر الخلل -لاسيما مع ظهور إعلام جديد غير منضبط هو إعلام التواصل الاجتماعي الذي انتشر في العالم اليوم- انهدمت اللغة من أساسها وماتت من حيث لم يشعر أهلها فلم يقدروا على تداركها، فوجب لذلك الحرص من الطرفين اللغويين والإعلاميين على سلامتها وصيانتها والحفاظ عليها وحسن أدائها للرسالة الإعلامية.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.