الاثنين
2024/04/29
آخر تحديث
الاثنين 29 أبريل 2024

تائه يبحث؟! (الحلقة: 18)

5 أبريل 2024 الساعة 14 و45 دقيقة
تائه يبحث؟! (الحلقة: 18)
لمرابط ولد لخديم
طباعة

إذا رجعنا إلى المقاربة السالفة الذكر(26) للحضارة ووصفها كنسق كلي جامع يحدد عقليتها ونمط رؤيتها للوجود وأخذنا المقارنة التي أنجزها مالك بن نبي في سياق المقاربة بين قصتي روبنسون كروزو وحي ابن يقظان واستنتاجه للتمايز بين العقلين الغربي والشرقي، حيث ينتهي إلى تقرير اختلاف جوهري في الرؤية إلى الكائن الإنساني ووظيفته في الوجود، إذ تنزع الرؤية الفلسفية للحضارة الإسلامية نحو نظرة كلية كيفية، وتنزع الرؤية الغربية نحو نظرة تحليلية كمية.
وكون هذه الرؤية الكمية لاتبدو فقط في هذا النتاج السردي الروائي ولا في النمط الثقافي الحضاري الغربي الراهن، بل حتى في الخلفية الثقافية الهلينية ووقوف مدرسة فرانكفورت مليا عند أسطورة أو ديسيوس في ملحمة الأوديسة كاشفة عن مركزية هذه الرؤية المادية التي سيصطلح عليها هوركايم وأدرولو بالأدائية.
وتمظهرها في علم الفيزياء مع جاليليو في رؤيته التحليلية الرياضية للكون. وفلسفيا مع ديكارت في تمييزه بين الفكر والامتداد، وتأسيسه للعقل بوصفه قوة للسيطرة على الطبيعة واستغلالها. ومجتمعيا في النمط الليبرالي، كنمط يقتصد تأسيس واقع يعامل الذات الإنسانية بوصفها جسدا.
وحرص المنظرين للفكرة الرأسمالية في الخطاب ألحدائي الرأسمالي على اختزال الدوافع والأشواق والغايات الإنسانية ـ حتى تلك التي تخرج عن نطاق العلاقة الاقتصادية ـ إلى رغبات وأشواق جسدية لتؤول إلى محض رغبة اقتصادية !.
وما يراه السيسيولوجى الألماني ماكس فيبر في كتابه الشهير «الأخلاق لبروتستانتية» حيث يؤول شخصية روبنسون كروزو رائيا فيها تجسيدا لنموذج «الإنسان الاقتصادي» ومحدد لنمط الحضارة الرأسمالية.
نجد مما سبق أن هذا النموذج ليس ملمحا من ملامح النمط المجتمعي الصناعي فقط، بل هو محدد من محددات نمط التفكير الغربي ككل.
لكن الإنسان بفطرته ـ ليس مجرد كائن يعيش وجوده بل هو فوق ذلك كائن ينزع نحو فهم الوجود بل حتى على مستوى وجوده الفردي يحرص على أن يجعل له معنى ودلالة ولا يكتفي بمجرد عيشه كما أسلفنا...
وهو ما يؤدي إلى أن إنتاج معنى للوجود حاجة محايثة لكينونة الإنسان ولا يمكن تجاهلها. وهذا ما أدركه بعض ناقدي العقلانية الغربية واستفسروا الحاجة إلى اعتباره عند تحليلهم للوضعية الإنسانية كما تقدم.
وبانتشار العقل المادي وهيمنته على العالم يسأل هذا التائه: هل قبل وجودنا من شيء؟ ووجود آبائنا وأمهاتنا ومن قبلهما إلي أعلى جد يوجد شيء أم لا؟ ويتساءل هل هذه الحياة التي فيه وفي غيره من بني الإنسان متساوية أم مختلفة؟ ولماذا تختلف عاداته وتقاليده وثقافته مع الآخرين؟
ثم يتساءل: ماهي المسلمات الدينية والعقدية والعلمية التي يجب احترامها والخروج عليها يعتبر زيقا عقليا؟
وقبل أن يتوصل إلى حل لتساؤلاته تلك تفاجئه وسائل الإعلام بما تملكه من وسائط الصوت والصورة والحركة وتقدم له حلولا ونماذج فوضوية وأجنبية..!!
إن أهم تحول عرفته نهاية القرن العشرين هو الانتقال مما أسماه (توفلر) بالموجبة الحضرية الثانية التي بدأت مع نهاية القرن السابع عشر الذي كان مصدر الثروة والنفوذ فيها هو رأس المال والإنتاج الصناعي إلى الموجة الحضارية الثالثة التي تمثل فيها المعرفة (إعلام، معلومات، تقنية رقمية) المصدر الأساسي للقوة والهيمنة.
لقد عجل ظهور مجتمع الإعلام والمعرفة بحدوث تطورات هائلة على صعيد إنتاج وتداول وتخزين ومعالجة المعلومات والاستفادة منها في مدة زمنية قياسية. " إن تزايد نفوذ الإعلام المقروء والمسموع والمرئي يشكل عاملا مساعدا لذيوع الحدث ..وأن الإعلام المرئي يلعب دورا بالغ التأثير في تبليغ الرسالة الإعلامية إلى العالم أجمع".
إن اختراق المعلومة لكافة الحدود والسدود والحواجز والقيود، وغزارتها بما يشبه طوفان نوح، وسهولة تخزينها وتصنيفها واسترجاعها، سوف يغير أذواق الناس وأنماط تفكيرهم وأساليب تعاملهم وتحصيلهم وأن تعدد الخيارات أمام الملتقى ووفرتها بين يديه، سوف يكسر احتكارات المعرفة، ويضع الجميع أمام فرص متكافئة يفوز فيه من مكان أحسن عملا.
وبما أن هذا التائه يسأل عن كل شيء ولا يقتنع بشيء؟!
فان ارتباطه بوسائل الأعلام والمعلومات السريعة هذه، حولته إلى متلق يستمع ويشاهد مسترخيا على أريكته، يتجرع ويحتسى كؤوس الشاي المنعنع مع ما يقدم له من دون كبير تدخل أو اختيار...
آثر ذلك على معاناة القراءة الجادة وما تتطلبه من تركيز ووعي، فتسطحت الثقافة ونتج عن ذلك داء الأمية الثقافية التي أضرت بحركة النقد، وحدت من تداول الأفكار وأدت إلى ركودها، فضمر الإبداع وتحجرت العقول، وغاصت الثقافة في المياه الآسنة..
إن الخطأ الذي يقع فيه الباحثون عندما ما يدرسون المجتمع الموريتاني (مجتمع البيظان) هو عدم وعيهم بالمجال الثقافي الموريتاني حينما يغلبون فيه الروافد العربية والإسلامية الوافدة من الشمال على العادات والتقاليد للسكان الأصليين.
ولقد أصبح مؤكدا أننا إذا لم نأخذ في الاعتبار تاريخ التراكمات القيمية، وروافد التيارات الثقافية التي تؤسس الظواهر المدروسة فإننا سنسقط لا محالة ضحية لخداع العقل الجمعي، وستبقى على فهم سهل ولكنه متناقض وتبريري إلى حد بعيد.
هب أن أحدنا أو غيرنا وقع اليوم على الاجتهاد المشهور لأحد فقهاءنا القدامى حيث أباح في إحدى نوازله للرجل الصحيح أن يتيمم لصلاته إذا كان الماء لا يوجد إلا عند أصهاره, اذ أن أخذ الماء من عند الأصهار للغسل أو للوضوء قد يكون منافيا لتقاليد السحوة, معللا ذالك بأن المشقة الحاصلة من فعل هذا الأمر المشين اجتماعيا هي مساوية لمشقة المرض التي تبيح التيمم ؟!!
ناهيك عن عشرات مجلدات كتب الكرامات والخوارق. وفتاوى الزوايا حول مال حسان " أصحاب السلطة" آنذاك الذين يسمونهم مستغرقى الذمم، وبعد حسان مال النصارى والذي يسمونه" مال هوش " ولعل هذا ما أوجد تأسيسا دينيا طريقا بجواز الأخذ من المال العام...
وقد لانستغرب أن أرضية مثل هذه أنتجت بعض الأحكام الخطيرة المبنية على اجتهادات تقبل أو ترفض في سياقات تاريخية معينة؟!!
ونحن نرى أن هذه الأحكام والفتاوى الشرعية مازالت على حالها خاصة في ظل غياب البحث وآلياته.. وندرة التأليف والنشر وفقه الواقع,,,,
إن هذه الفتاوى فقدت كل أساس كانت تقف عليه، فلم تعد السلطة في أيدي أمراء "حسان" ولم يعد مفهوم "الزوايا" كما كان آنذاك.
أضف إلى ذلك أن الطائفتان إنما هما جزء من المجتمع الموريتاني المتعدد الأعراق الذي يعيش تحت ظل الجمهورية الإسلامية الموريتانية، كسلطة مركزية، منذ 28 نوفمبر 1960 م تحقق الملكية العامة في كل ما كان من مرافق الجماعة، وعن الضروريات للحياة العامة، وتتولى عن الجماعة شؤونها ووسائلها.
وإن كانت هذه الاجتهادات قد أدت دورا تاريخيا معينا
وإن كانت هذه الاجتهادات قد أدت دورا تاريخيا معينا، فقد تعداها مد العلم والثقافة، ومن الخطأ أن نظن أن أخبار السلف هدف ثقافي يقصد لذاته كمتعة عقلية، دون أن يكون وراء ذلك مشروع إنهاض، وخطة توعية من أجل صنع الحاضر، والتأثير في الأجيال القادمة.
حسب هؤلاء السلف أنهم كانوا أمثلة مسهمة في صنع عصرهم، وتوجيه معاصريهم، من خلال إهتمامهم بالوقائع والمستجدات، مما جعلهم يسعون إلى تكييف العلوم والمعارف مع مجتمعهم وحياة أناسهم، فسايروا بذلك مختلف الأحداث، مستجيبين للبيئة وخصوصياتها فردوا على أهم الإشكالات التي وردت عليهم فكانوا كلما استفتوا عن النوازل افتوا وأفهموا وبينوا.
فهل سنعتمد على تراثنا ونتفهم ما فيه ونحسن التعامل معه، ليس بحثا فقط وإنما تطبيقا وتجسيدا لننشأ حداثة مبنية على أصالة، ومعاصرة مبني على تراث؟؟
إن أي إصلاح لم يبدأ بتشخيص واقع الشعوب لن يأتي بنتيجة, صحيح أن الذين يمارسون النقد يلقون الكثير من المشكلات مما دفع جل الناس إلى إيثار الصمت، و تجاوزه بعضهم إلى تزيين الخطأ وتلميعه، مما جعل المشكلات تتراكم، وتفرخ، وتصبح أشبه بأوبئة مستوطنة.
غير أن أهمية النقد تكمن في أننا بشر نصيب ونخطئ، والجميع يعترف بذلك، لكن سلوكنا لا يترجم ذلك الإعتراف....

يتواصل....

ملخص الحلقة:
تتحدث الحلقة عن تفاوت الرؤى والمقاربات الثقافية بين الغرب والشرق، مشيرًا إلى التمايز بين الرؤية الفلسفية الشرقية والرؤية التحليلية الكمية الغربية.
تتناول دور العقل المادي في الثقافة الغربية وكيف يتم تحليل الواقع والإنسانية من خلال عدسة رأسمالية اقتصادية.
كما تطرح تساؤلات حول معنى الوجود والتفاوت الثقافي والديني، وكيفية التعامل معها في ظل سيطرة الإعلام على الوعي الجماعي.؟!
يبين النص تأثير وسائل الإعلام الحديثة والتغيرات الثقافية على المجتمع والفكر.
يجب أن نكون حذرين وندرك تأثير هذه التحولات على الثقافة والفهم العام.
التوازن بين التقليد والتجديد يمكن أن يساعد في خلق مجتمع يستفيد من تاريخه ويتطور بما يتناسب مع العصر الحديث.

لمرابط ولد لخديم