على هامش المقال: إذا استمرّت موريتانيا على هذا الحال فستسقط
قادنا نقاش ذلك المقال مع الولي محمذن ولد محمودن، وقد ركبنا مركب التعقل والتنظير والمقارنة والتحليل، إلى محصلة أنه، بالإضافة للأسباب المذكورة في المقال المذكور، توجد أسباب أخرى لسقوط الدولة تبدأ من انعدام استغلال الفرص التاريخية التي يمر بها البلد دون أن ينتبه لها، وتتحول تلك الظروف والشروط إلى عوامل ضغط وتفجير للبلد من الداخل. فالدول تنهار، في الحقيقة، بعوامل داخلية وأخرى خارجية. العوامل الداخلية تتطور بها، كما أن التغيرات الكبيرة في العالم تجعل أن الدول التي كانت في الخلف قد تصبح في الأمام لأسباب جيوبوليتيكية، أي أنها تتوفر لها مجموعة من الشروط والظروف لأن تنتقل إلى الأمام عندما تحسن استغلالها، فتركيا كانت دولة متخلفة إلى جانب إسرائيل والعراق وإيران وسوريا التي كانت تسعى للنهوض والتقدم، وكانت مضطرة لبناء نفسها وسط هذا الطموح. واليوم انتقلت من 118 إلى العشرة الاولى. واليابان بجانب الصين تغير موقعها ووضعها الجيوسياسية. لقد كان من بين عوامل النهضة تلك، الوعي بالتاريخ وبالجغرافيا. دولة لا تأخذ بتلك الأبعاد وتستحضر مسارها التاريخيّ لا يمكن أن تنهض. صحيح أن موريتانيا كانت دولة متخلفة بجانب المغرب والجزائر والسينغال ومالي. دول في الحقيقة لم تكن مهتمة بالتطور ولا تدفع إليه ،لكنها اليوم تقع في قلب الصراع على الطاقة، وفي قلب موضوع المهاجرين والحرب ضد الحركات المتطرفة، والحرب الاقتصادية بين الصين والروس من جهة والغرب من جهة أخرى، وعضو رئيسي في مجموعة الساحل جغرافيا ،وتقع في صلب عملية السباق بين الجزائر والمغرب على الأسواق الأفريقية، وبجوار السينغال الذي أطلق قمره الصناعي ويبني اقتصاده وجيشه بقوة، ويريد استعراض تاريخه. عملية التطور تبدأ بأن تدرك الدولة بسرعة أنها لم تعد في الخلف، وأنها فقط يجب أن تدرك أنها صارت قادرة على أن تكون في الأمام، وأنها ملزمة بالحفاظ على خطها في التاريخ. إن الدعم الذي يحظى به الرئيسان، والشرعية الشعبية الكبيرة لكل منها (فلاديمير بوتين وطيب رجب أردوغان) أنهما يستلهمان الدروس من قوة وعظمة تاريخ شعوبهما. إن الرؤية ذات الأبعاد الثلاثية ضرورية في ذلك، كذا الوقت والتاريخ والمستقبل. إن المشكلة الكبيرة هي المسافة الزمنية التي ستتمكن خلالها الدولة من ادراك هذه الفرصة، وأنها مواتية، بل لاتقبل التردد لأن تستخدمها للتطوير .
أن مشكلة المجتمع الموريتاني، وليست الرئاسة والحكومة والبرلمان والنخبة إلا افرازا طبيعيا له، أنهم ليسوا قلقين على مستقبلهم، في حين أن الولايات المتحدة والغرب والصين: كل أولئك قلقين على مستقبلهم. الأمر يتعلق بالايمان بالبلد والطموح للقوة في تتبع ذلك الخط. وهذا تعكسه السياسات العميقة والقرارات الكبرى والبدايات العظيمة.. فهل رأينا فعلا شيئا من ذلك ؟
إن إحدى الطامات الكبرى تتمثل في كون موريتانيا تعول فقط، في تطورها، على الموارد الطبيعية، ولم افهم بعد أنها ليست أداة للتقدم، بل بالعلم والتعلم (وغرس القيم الصالحة في المجتمع ). وعلى العكس من ذلك، فإنها لا تتبنى أي اصلاح ثقافي، وتفتح أرضها وجوها وبحرها للأجانب لاستغلال مواردها رغم بيئتها الضعيفة. إنها تأكل رأس مالها، ففي تعبير دقيق يشير إليه الولي ولد محمودن أن أكبر سبب للتخلف هو أن تظل تأكل من "أجگراج"، بدل من مضاعفته.
كان هذا النقاش على هامش جولة قادنا إليها في مشروعه التراثي ، الذي يحمل بصمات دولة. المشروع، رغم انه أسس كأي فكرة جيدة لهدف، كانت البداية فيه بناء سقف مرتفع من الخشب والزنك على شكل قاعة كبيرة، يتوسطها بيت والده الذي هو عبارة عن بيتين طينيين صغيرين ليحميه من العوامل المناخية اطول فترة زمنية ممكنة. وقاده ذلك إلى التفكير في حماية التراث. ومن هنا تم التأسيس لمشروع ثقافي تراثي كبير في عملية انفتاح على العالم. تعتمد هذه العملية على وضع مليون صفحة في متناول الدارسين والمتخصصين. إنها صفحات تراثية تتدفق بالحياة، ليس لأنها تسطر وتشهد على تجليات مضيئة في كل علوم وقتها، بل لأنها تنساق عبر التدرج والاستمرار الزمني في تنقل بين الاجيال وبين المدارس المحظرية الموريتانية وخصائها التعليمية والمنهجية وطلابها وروادها، مع الحفاظ على النمط والخصوصية والصبغة التقليدية للعملية العلمية دون أن تؤثر الوسائط الناقلة الحديثة على الخصوصية، ولا على الطابع التقليدي. إنه يريد أن يحمل الثقافة الموريتانية بطبيعتها للعالم الخارجي. يحمل المشروع الفكري الطموح، في طياته، التعريف بالبلد في تجلياته المضيئة. البلد الذي ظل إشعاعا للمنطقة وتاريخا من العطاء والتأثير الكبير في العالم وفي مسار الأحداث .
لا توجد أي محركات سياسية للمشروع الذي بدأت فكرته امتناناً للوالد بالتعريف بحضارة اللوح الخشبي وطريقة التعامل معه، بحيث يجب وضعه في مكان طاهر وتقديسه لأنه يحمل القرءان والعلوم الشرعية. كان ذلك أيضا طريقة لغرس روح التقديس في نفوس النشء لهذا اللوح الخشبي نفسه. لقد جعل هذا اللوح أهل البلد يتشبعون بهذه العلوم رغم شح ظروفها، ولذلك كان الوفاء له وفاء لرموزنا الثقافية. كانت هذه الألواح موجودة في درج زجاجية مبوبة على العلوم الشرعية وثقافتها: من بيان وبديع وتفسير وغيره، مع التبويب .
لقد كان لكل شيخ محظرة طريقته ونمطه في التدريس وبصمته الخاصة التي حافظ عليها. وهكذا فإن هذا المشروع يجمع كل تلك الصور والأنماط، ويجعلها في قالب جديد، ليذكرنا ببعض ما كان عندنا. إنه يوحي بالثقة في النفس وفي التاريخ. ويذكرنا بأن المثابرة والصبر والجهود الذاتية هي التي جعلت منا، وعلى مدى عشرة قرون مجتمعا مشاركا في المجهود البشري وفي الأحداث، رغم غياب دولة مركزية. وبنفس تلك الذاتية، ها هو اليوم الولي ولد محمودن، وبمجهود فردي، يدشن مشروع الاعتراف بالذات وفرض الآخرين على الاعتراف بنا من خلال بحر من المعلومات الزاخرة التي سيقدمها للعالم باسم موريتانيا. وسيكون حتى الصينيون قادرين على الدخول في هذا المعدن النفيس من العلوم والمخطوطات والتآليف دون كبير عناء د، ومن ثم تفحصه بلغتهم .
وقد تم تتويج ذلك النقاش بأن الدولة الموريتانية تمشي دون الاستعانة ببوصلة تربط الخط التاريخيّ بين الماضي والحاضر. كل الدول التي لا تملك تراثا إنسانيا، تحاول أن تخلق بواسطة المال أبعادا ثقافية، وتستخدم كل الوسائل لذلك لأنه جزء من الذات في خلق القواسم المشتركة. أما الدول التي تملك تاريخاً فإنها تمجد رموزها وتعتني بهم على مر التاريخ. وهكذا يحصل يوسف بن تاشفين على رمز المجاهد ومؤسس الأمجاد التاريخية للمغرب، ويحظى بحراسة على صريحه الشامخ في مراكش. وفي موريتانيا تظل الماعز تبرك على ضريح أبي بكر بن عامر زعيم المرابطين. إن مجد الدولة المرابطية لم يتوقف عندنا، كما لم يتوقف في المغرب. لقد وصل أوروبا عبر الفتوحات، ووصل الأمريكتين عبر تجارة العبيد من توبنبان وألمامي .إن المد المرابطي الذي انطلق من تيدرة، رغم الآراء الخبيثة التي تريد طمس ذلك أيضا، كان يضم شعوبا كثيرة. لقد كان ورجابي زعيم التكرير مع بوبكر بن عامر، وكان آيل كانْ مع يوسف بن تاشفين في معركة الزلاقة، كما أن إنجان جاي انجاي، زعيم الولوف، كان وقبيليته يعتبرون أنهم أبناء أبي الدرداء بن بوبكر بن عامر. كما أن مجموعة أخرى منهم يعتبرون أن أمهم هارام بوكار أي ابنة بوبكر بن عامر. إن تتبع هذا المد والامتداد السلالي والديني والفكري، وإحيائه ضمن تراث البلد وتاريخه، يجعل شعبنا شعبا عظيما يملك كل أسباب الثقة بالنفس ودواعي اللحمة الوطنية. نحن نتكلم عن تاريخ يجمعنا في جميع مراحلنا .إن التخلي عن تاريخنا المضيء، وعدم تكريس بعدنا الحضاري والثقافي، وعدم تقديس وحماية وتكريم زعمائنا وقادتنا في جميع مراحل حياة هذا الشعب، بدءا بالمرابطين وانتهاء بالمقاومة، يمثل أكبر تنازل عن كرامة هذا الشعب وأبعاده التاريخية والحضارية، ويجعلنا ما زلنا في مرحلة لا دولة وطنية، ويدعم اتجاهات التراخي والانفصام داخل البلد، ويؤيد ويدعم السقوط لأنها لا توجد قواسم مشتركة، بل محاصصة سياسية لا غير .
الإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار