هل كان تعامل غزواني مع تقرير محكمة الحسابات عن قناعة أم تحت ضغط شعبي؟

شكّل التعامل الأخير مع تقرير محكمة الحسابات محطة مفصلية في مسار تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد في موريتانيا، حيث تم تبنّي مضامين التقرير كاملة، وفي خطوة غير مسبوقة وحاسمة عكست إرادة سياسية واضحة في إنفاذ محاربة الفساد، أقال مجلس الوزراء جميع المشمولين في ملف الفساد، كما أقال الوزير الأول عددًا من مستشاريه في ديوانه. وبحسب التوجه ذاته، يتعيّن على مدير شركة صوملك إقالة خمسة من موظفي الشركة، كما أُقيل مندوب تآزر ضمن من شملهم التقرير ممن لا يزالون يشغلون وظائف في الدولة.
لقد كانت الخطوة مدوّية بحجم المبالغ المهدورة وفداحة الخسارة، وانعكاس ذلك على المزاج العام. وقد لقيت صدى واسعًا، انسجامًا مع الدعم الشعبي الكبير لمحاربة الفساد، خاصة بعد أن بلغ هذا الأخير مرحلة من الضراوة تهدد كيان الدولة وتعيق مسار التنمية، وكل البرامج والخطط الحكومية.
غير أن اللافت في الأمر هو ما تزامن مع هذه الإجراءات من حملة تخوين وتهويل وتثبيط اجتاحت الفضاء الإعلامي ووسائط التواصل الاجتماعي، التي تسعى لأن تكون عقلاً عبثيًّا للدولة، في الوقت ذاته الذي أعلنت فيه الحكومة عن تشكيل لجنة برئاسة الوزير الأول لمتابعة التقرير. لقد بلغ الأمر حدَّ أن البعض يتعامل مع القضية وكأننا أمام “مؤامرة متجانسة وعديمة الرحمة” تتبناها الحكومة ضد الشعب، أو كأن الرئيس غزواني عاجز عن مجابهتها، رغم أنه هو من أمر بنشر التقرير، ووجّه باتخاذ الإجراءات المترتبة عليه، وظل يتابعها شخصيًّا.
لقد تجاهل كثيرون، أو تناسوا، أن الرئيس غزواني أكّد في خضم الجدل، وبعبارة واضحة، أن “لا تنمية ممكنة في ظل الفساد”، وهو الموقف ذاته الذي تبنّاه منذ انطلاق حملته الانتخابية، حين جعل من محاربة الفساد أحد أعمدة مشروعه السياسي، مؤكّدًا أنه “لا مكان للمفسدين بيننا”، ومتعهدًا بالضرب بيد من حديد على كل من يعبث بالمال العام. ومع ذلك، تظل هناك قلّة من النقاشات الموثوقة والجادة حول القضية في الرأي العام، على نحو لم تنشأ معه بعدُ عقيدة وطنية راسخة لمحاربة الفساد.
لكننا، وللأسف، نميل باستمرار إلى إطلاق الأحكام السريعة دون تمعّن، كما لا نريد مطلقًا فهم أسلوب الرجل. فهو، بصفة عامة، يفضّل إظهار الليونة على إظهار القوة التي يحتفظ بها في عمق تفكيره، ويسير أمور الدولة انطلاقًا من هذا التوجّه. وحين تكون الصرامة ضرورية، يُفعّل عنصر القوة.
كما يتّسم، من الناحية التحليلية، نمط القيادة لدى الرئيس غزواني بقدر عالٍ من التحفّظ العملي، إذ يميل إلى التعبير عمّا يؤمن به أكثر من استخدام الشعارات لترويج الذات. وغالبًا ما يُعلن مواقف مبدئية قبل بلورتها ضمن خطة تنفيذية مفصلة، لكنها في المجمل تكون قابلة للتحقّق ضمن سياقات مؤسسية لاحقة أو تصوّرات نظرية.
ويُعرف عنه أيضًا إيمانه بقدرات طاقمه الإداري، ومنحه الصلاحيات اللازمة للمسؤولين، مما يجعله أقل ميلاً للتدخل في القرارات الفنية أو المهنية. غير أن هذا النهج أتاح، من حيث لا يُراد، لبعض المستويات الإدارية، ولعدد من الموظفين غير النزيهين، الاستمرار في مواقعهم، بسبب ضعف الرقابة الداخلية وعدم فعالية آليات المساءلة داخل الجهاز الإداري، أو لأن التفتيش لم يطَلهم.
إن الفساد في موريتانيا أعمق وأعقد من أن يُقضى عليه بسرعة، لكن مواجهته تتطلب خطوات متتالية، وتعبئة اجتماعية شاملة، وإصلاحات هيكلية جادة، من بينها:
• تصحيح وضعية الموظفين الذين يزوّرون الشهادات، حيث إن وجودهم في مراكز قيادية يأتي على حساب الكفاءة؛
• نزع الحماية أو الغطاء السياسي والاجتماعي عن بعض الموظفين، مما يجعلهم دائمًا في الواجهة أو في المواقع الإدارية المهمة؛
• تقوية أدوات الرقابة ومنحها مزيدًا من الاستقلالية في البرمجة، حتى تتمكن من تفتيش جميع القطاعات دون استثناء؛
• إصلاح نظام الصفقات العمومية؛
• تعزيز استقلالية القضاء، وتحفيز القضاة على الاستقامة من خلال ربطها ببعض المزايا؛
• العمل على تغيير الحواضن الاجتماعية للفساد، من ثقافة البذخ والمجاملة إلى ثقافة النزاهة والمساءلة.
إن هذه الحزمة من الإجراءات يمكن أن تشكل بداية حقيقية للتقليل من ضراوة الفساد، وتضع البلاد على طريق إصلاح مؤسسي متين، يكرّس الشفافية والمساءلة في إدارة الشأن العام.
وفي الاتجاه المقابل، وللحدّ من الشطط، يجب تنظيم النشاط الإعلامي ووسائط التواصل الاجتماعي، وإخضاعها للقانون من أجل تحقيق توازن عام.
الإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار