الجمعة
2024/05/3
آخر تحديث
الجمعة 3 مايو 2024

الذهب الذي يقتل في موريتانيا(تحليل خاص-العلم)

26 أكتوبر 2020 الساعة 09 و30 دقيقة
الذهب الذي يقتل في موريتانيا(تحليل خاص-العلم)
طباعة

تفشت حمى التنقيب عن الذهب في البلاد منذ 2015 إثر سريان معلومات عن وجود كميات كبيرة من الذهب السطحي سهل الإقتناء فى منطقة تيجيريت 250 كلم شمال نواكشوط، الأمر الذي سقط لأول مرة على مسامع الموريتانيين، وكان كالنبأ العظيم الذي يطير له عقل المرء خاصة في موريتانيا التي ظل النشاط المدر ومجال الأعمال حكرا فيها على جماعة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، وظلت نسبة الفقر والبطالة بين الشباب هي الأقرب إلى الأعلى في المنطقة.

كانت السنوات اللاحقة جنونا فرديا وجماعيا أصاب الشعب الموريتاني خاصة مع وصول أول "اغرامات" من ذلك الذهب عبر التنقيب البسيط إلى "سوق لحموم" في "كبيتال" بسعر 18500 أوقية للغرام ،حيث حولت البلد إلى مسرح للجنون العام الذي يصيب العقلاء، وارتفعت خلاله أسعار أجهزة التنقيب في العالم بسبب الطلب الموريتاني، وبدأت الناس تبيع مقتنياتها بأسعار زهيدة، وأخذت بعض الأسر تخرج من منزلها لتشتري جهاز تنقيب أو سيارة عابرة للصحراء أو أدوات للحفر، أي أن تنتقل طواعية وبتهور من واقعها الملموس إلى حلم وإلى سراب معلق بالصحراء، وتبيع مقتنياتها وموجوداتها من أجل الحصول على وضع أحسن عبر الحكايات المغرية، والشائعات التي تحوم حول الموضوع، من ما خلق حالات ووضعيات إجتماعية مأساوية.

أمام هذا الجنون سكتت الدولة، وليتها سكتت فقط، بل أنها دفعت الناس لمزيد من الجنون والتضحية بأموالها وواقعها مثل ما فعلت إزاء ظاهرة الجنون الأخرى المتعلقة بالشيخ الرضى، ووراء كل الجنونين كان يقف محمد ولد عبد العزيز لردم كل السيولة، المجهولة أو المعلومة المصدر، الفائضة عن مقدار تحمل الحسابات والتكديس، ردمها أولا في الذهب وثانيا في العقار. وقد أصاب ذلك الهلع قرابة 100000 شخص احتشدت في مسافة 20 كلمتر للتنقيب عن الذهب بوسائل مختلفة، من دون خبرة أو تأطير أو متابعة أو توفير الماء أو الدواء أو أي خدمة عمومية من طرف الدولة التي ظل موقفها انتهازيا لسبب مر علينا، ولم تقدم أي معلومات ولا توضيحات ولا معطيات عن المسألة وتركت الناس فريسة الشائعات مما ضاعف من انتشار داء جنون التنقيب بين الدولة والمجتمع حتى اعتبرته السلطة، في نهاية المطاف، فتحا ضريبيا جديدا لفرض ضرائب مجحفة على الأجهزة وعلى الولوج إلى المنطقة التي لا يدري المرء حظه فيها، رغم أنه لا يملك في هذا المسار سوى الحظ، فلا توجد أي معلومات ولا أي مؤشرات دقيقة، الأمر الذي أدى للترحال الدائم من مكان إلى مكان بالنسبة للمنقبين الذين تلهب جيوبهم النفقات المستمرة ويلفح وجوههم حر شمس المنطقة العارية في الصيف ولسعات بردها القارس في الشتاء.

 لقد تأكدتْ بما لا يدع مجالا للشك حقيقة وجود الذهب في منطقة الشمال عموما، بعد أن أغرقت حصيلة التنقيب سوقي نواكشوط ودبي بالذهب الذي تدرجت عملية التنقيب له عبر مراحل حسب وضعية الذهب على السطح، فقد تحول المنقبون إلى أساليب جديدة بعد انتهاء كميات الذهب السطحي نهائيا وبعد تجربة كل الوسائل بالإستعانة بخبرة السودانيين والماليين الذين يحظر عليهم القانون الموريتاني المشاركة في مزاولة هذه الأنشطة. وقد كان الانتقال إلى مرحلة الحفر الأكثر جدوائية التي جاءت عبر تجربة عرفت بتجربة المرأة أو "مجهَر لِمرَه" والذي استخدم فيه أول الأمر الفؤوس والقوة العضلية، ومن ثم تمت الإستعانة ببعض آليات الحفر الميكانيكية، وبعد ذلك استخدام التجربة المالية (قوموكو) وهي حفر بئر أفقي داخل البئر الأصلية من أجل تتبع مسار الذهب، الذي ترى الخبرة التقليدية أنه يمشي في الأرض في شكل عروق، هذه التجربة أهلكت الكثيرين ممن يموتون دائما تحت تهدم تلك الآبار بعدما تتحول إلى مغارات، لكنها أيضا شاركت في بناء قطب اقتصادي وتجاري وطني في مدينة الشامي بقيمة مليارت الأوقية يوميا، وهي مدينة نمت وترعرعت في أحضان التنقيب، أنشأها إداريا محمد ولد عبد العزيز في "إعظيم المرار" بمنطقة مكشوفة تمر عبرها الرياح الهوجاء إلى الجزائر. وقد أنشأها 35 كلم من مصدر المياه الذي يوجد بمنطقة يوجد بها استثمار صغير عبارة عن محطة بنزين ومحطة إستراحة تعود لأحد أفراد أسرة محمد ولد بوعوماتو: غريمه ومنافسه على المنافع وعلى الإستحواذ علي خيرات البلد، قبل وضوح نوايا ولد عبد العزيز البشعة نحو جمع المال.

 لقد كانت هذه المدينة لا تمتلك أي مقومات لحماية نفسها ومع ذلك أصبحت ملاذا لـ"شعب التنقيب"،لكنها سوقا سوداء للذهب أسسها عزيز حسب نتائج التحقيق "لعملياته الذهبية"، فلم يستطع البنك المركزي السيطرة على الوضع رغم ما يمثله الذهب من دعم كبير للأوقية التي تعوم اليوم في سوق الصرف وتتآكل قيمتها كل صباح أمام سعر العملات الأجنبية، لكن تدخل عزيز في الموضوع منع أي استراتيجية جادة وعلمية من المساهمة في توجيه مداخيل وحصيلة ذلك العمل.

من الموت الفردي إلى الموت الجماعي إلى موت الشعب

 كان المنقبون يتعرضون لحوادث موت عديدة، مثل حوادث السير والتعرض للرمي بالرصاص من طرف الجيش الوطني، وتهدم الآبار، وعضات الأفاعي وغيرها، لكن هذه الحوادث في العادة لا تتعدى الضحايا أنفسهم . أما اليوم فقد تم إدخال عناصر جديدة محظورة عالميا في استخراج هذا المنتوج، وهي مادة الزئبق ومادة إسيانيير القاتلة التي تسري عبر البيئة لتقضي على السلسلة الغذائية كلها، كما يخضع استغلال هذه المواد لشروط وإجراءات دقيقة ومكلفة تتطلب إذنا خاصا من وزارة البيئة بعد دراسة الأثر البيئي. ورغم تحول الكثير من مصانع استخراج الذهب عالميا عن هذه التكنولوجيا الكيمائية الفتاكة، فإن بلدنا للأسف بدأ في إطار فوضيته المعهودة وتساهله إزاء المستقبل، بترخيص استخدام هذه المواد في تجاهل تام لقوانينه الداخلية المتعلقة بقانون الجنايات الموريتاني (فصل الجنايات والجنح ضد الأشخاص- المادة 277/278 التي تجرم استخدام المواد السامة ضد الأشخاص وتحدد لمرتكبيها عقوبة الإعدام بالنسبة للإعتداء على شخص واحد فما بالك بمجتمع).

كما يُمنع استخدامها في موريتانيا بواسطة اتفاقية (ميناماتا) بشأن الزئبق - وهي معاهدة عالمية لحماية صحة الإنسان والبيئة من الانبعاثات البشرية ومن إطلاقات الزئبق ومركبات الزئبق – حيث دخلت حيز النفاذ 16 أغسطس 2017 ووقعت عليها الحكومة الموؤيتانسة لاحقا.
استخدام هذه المواد التي تسري في البيئة جوا من خلال الإنبعاث وأرضا من خلال التسرب، في منطقة تمثل أحسن وأجود منطقة للإنتجاع في البلد خاصة مواسم الخصب حيث تنتقل لها أغلب قطعان الحيوانات والإبل على نحو كاسح من كل حدب وصوب في البلد، لصحة مناخها ومرعاها الوفير والغني وسرعة نفعها للدواب، وفي نهاية الإنتجاع تعود المواشي إلى مواطنها في أصقاع البلد، الأمر الذي يرفع من خطورة أي حالة تسمم أو مرض من جراء هذه السموم إلى كارثة أو جائحة وطنية، دون إستثناء ولا تمييز. نفس الأمر يضع أي تساهل أو ترخيص للتعامل بهذه المادة واستخدامها في هذه المناطق جريمة وطنية وإنسانية تجب معاقبة صاحبها ويضع الدولة ومصالحها أمام مسؤوليات قانونية ودولية وأخلاقية.

مشكلة قديمة جديدة

 يقود موضوع استخدام مادتي الزئبق وإسيانيير في استخراج الذهب من طرف مستثمرين محليين ومنقبين إلى إحتقان إجتماعي كبير يرجع للوعي بخطورة هذه المواد وبمجهود النشاط المدني وتأثير الوعي المتزايد عند المواطنين. وقد خلق استخدامها مظاهرات وتوترات إجتماعية في منطقة الشامي أولا ثم مدينة ازويرات، ومن المتوقع أن يمتد هذا الحراك لرقع أخرى في المنطقة، وعند تبريرهم لاستخدام هذه المواد أمام الناشطين قال المستثمرون ان شركة تازيازت تستعمل مادة إسيانيير منذ مدة طويلة وكذلك شركة النحاس MCM في إكجوجت، وأنه لا يوجد أي سبب لمنعهم من ذلك، ما دامت هذه التكنولوجيا مستخدمة على نحو مفرط ووحيد لإستخراج الذهب من طرف شركة تازيازت التي تمنح كل فترة امتيازات جديدة والأفضلية فيما يتعلق برخص الإستغلال.

المواطن الموريتاني الذي يرى بعين ريبة وشك وانتقاد المجهود الإستنزافي لشركة تازيازت والسكوت على ذلك على نحو التواطؤ من طرف مصالح الدولة، والذي حصل على معلومات محبطة عن النظام الذي حكمه طيلة العقد الماضي خاصة فيما يتعلق بالإنتهازية وانعدام الوطنية كما أدى إلى الحالة التي يتخبط فيها القطاع على المستويين التقليدي والصناعي، يراقب، بطموح نحو الإصلاح والتغيير، جهود النظام الجديد - الذي يرى أنه خال من تلك النوازع - ومن خلال شعاراته الوطنية، لأجل حماية البلد وموارده وإعادة تقسيم الثروة بشكل عادل.

ويتمنى أن تتم دراسة كل الفرص وإعادة توزيعها بعدالة، وأهم من ذلك مراجعة فرص الإستنزاف والتكنلوجيا التي تستخدمها كينروس، وبصفة أساسية بالنسبة للرخصة الجديدة، كما يطالب بإلحاح وصدق من السلطات وقف حمام الموت الذي سيخلقه استخدام هذه المواد السامة خاصة في المناطق التي تكون مصدرا للمياه أو للرعي.