هذا ما نريده منكم في مأموريتكم هذه... (الحلقة السابعة)

فخامة الرئيس
أتمنى أن تجد هذه الحلقة خاصة قراءة خاصة من فخامتكم
هل تعلمون يا فخامة الرئيس أن لكل بلد ميزاته التفضيلية التي يحافظ عليها وينميها؟ وهل تعلمون أن ميزات بلدنا التفضيلية لم تكن أبدا اقتصادية أو سياسية بل كانت دائما ثقافية؟
هل تعلمون بأن بعض البلدان الواقعة عن شمالنا تجني قيمة معنوية وتاريخية كبيرة في العالم، كما تجني ملايين الدولارات من برامج ثقافية وسياحية مختلفة مع شعوب وجامعات في أوروبا وأمريكا اللاتينية من تسويق أجزاء من ثقافة وتاريخ هما في الأصل ملك لنا نحن كتاريخ الدولة المرابطية التي انطلقت من صحرائنا وشملت معظم المغرب العربي وإسبانيا..؟
هل تعلمون أن بعض البلدان الواقعة عن جنوبنا تقوم بنفس الشيء في أجزاء أخرى من تاريخنا خاصة ما يتعلق بالجهاد ونشر الإسلام ومكافحة تجارة الرقيق وإقامة الدول الإسلامية في إفريقيا بجهود من أئمتنا وعلمائنا وتسوق هذه الدول هذا التاريخ على أنه تاريخها وهذه الجهود على أنها جهودها؟
هل تعلمون يا فخامة الرئيس أن الدول الواقعة عن شمالنا وجنوبنا تتقاسم دعوى ملكية الإرث التاريخي لملايين المخطوطات العربية والإسلامية المنتشرة اليوم في أوروبا وأمريكا وآسيا والدول المجاورة، وأصلها من صحرائها، وإنتاجها إنتاج علمائنا، هم يتباهون بها على أنها لهم ويأخذون عليها ملايين الدولارات ونحن غائبون تماما عن المشهد؟ تقوم جامعات الدول المجاورة لنا شمالا وجنوبا -وهذا متاح على النت لمن يريد أن يتحقق منه- سنويا بتخريج عشرات الطلاب المتخرجين ببحوث عن علمائنا ومؤلفاتنا وتاريخنا على أنهم علماؤهم وتاريخهم، ونحن غائبون...
فقدت الثقافة منذ انقلاب 1978 الأهمية التي كانت الدولة توليها، فتردت الآداب والفكر والمكتبات العمومية والبحوث والتاريخ والآثار والمتاحف والمخطوطات والمسرح والفنون، وسرق ما سرق وضاع ما ضاع، وصار كل من هب ودب مديرا لمؤسسة ثقافية أو حتى وزيرا للثقافة، وبدأنا نتعرض لمسخ ثقافي شديد...
وهكذا أخذنا ننتج يا فخامة الرئيس نشئا لا يحمل أي قيم غير العبارات الساقطة والخطابات السوقية التي أصبحت تغزو السياسة والإعلام والمجتمع سواء على شكل كتابات أو صوتيات أو حتى في مدرجات الجامعة وجلسات البرلمان، وكثرت في الآونة الأخيرة بين المراهقين الذين هم الجيل الصاعد بدرجة تنذر بهدم أخلاق وقيم المجتمع وانحلالها، مع مسارعة غير مؤطرة بالقانون أو الأخلاق إلى ثقافة التحصيل والاختلاس والرشوة والثراء وتعظيم الأثرياء وتقديم الماديات على حساب العلم والمعارف والفكر والقيم؟
وأدى هذا يا فخامة الرئيس إلى ميل في البلد إلى تزايد مستوى الجنوح في الأطفال والمراهقين وممارسة أنواع الانحلال والمخدرات في أبنائنا وبناتنا، والعزم على النشل والتلصص والسرقة وأحيانا اقتحام البيوت والقتل في تهتك واضح للقيم.. وقع نفس الأمر يا فخامة الرئيس في دول لم تسارع إلى معالجته كهايتي وتفاقم خلال الثلاثين سنة الماضية والنتيجة أنها ها هي اليوم تحكمها رسميا عصابات الشوارع... شعب هايتي لمن لا يعلم قدم إليها قبل ثلاثة أو أربعة قرون من موريتانيا والدول المجاورة، فهو نفس شعبنا وجيناته نفس جيناتنا...
فخامة الرئيس
القيمة التي لدينا في أعين الأفارقة، وفي أعين المغاربة وفي أعين الجزائريين والتونسيين والليبيين والمصريين والعراقيين وأهل الشام والخليج وغيرهم قيمة ثقافية، بها تصدرنا العالم سابقا وما زلنا أيضا في العلم الشرعي والآداب والشعر والفكر ، بها نجني تعاطفهم وتضامنهم، ونستدر ثرواتهم ومساندتهم فلم نفرط في كل هذا..؟
في هذه الصحراء قامت يا فخامة الرئيس دول عظيمة غيرت مجرى التاريخ شمالا وجنوبا نشرت الإسلام وجلبت الحضارة والنور إلى أعماق إفريقيا، وطوعت الصحراء وأنشأت جامعات على ظهور العيس، وأنبتت إمارات تحكم بالعدل وترعى الشرع والفكر والآداب والطب والفلك والرياضيات في خروج عن المألوف في جميع صحاري وبوادي الكرة الأرضية...
ومع ذلك يا فخامة الرئيس منذ غادر المختار ولد داداه تعطلت مع الوقت البحوث والحفريات والبرامج، التي كانت تجري في أودغست وكومبي صالح وودان وتيشيت وشنقيط وولاته، ونهب المتحف، وتعطل نشر موسوعة المختار ولد حامدن التي كانت الدولة ترعاها منذ الاستقلال بل منذ الأربعينات في فترة الاستعمار، وبدأت حضارة البيضان تموت وتتهاوى، وأصبح البيضان اليوم وثقافتهم في مرحلة احتضار ومسخ، ولن يجدهم أحد بعد مائة سنة على أديم هذه الأرض بسبب اندثارهم ومسخهم..
وبنفس القدر ذوت أيضا حضارات البولار والسوننكيين والوولوف الإسلامية وأمجادها على هذا الأرض، فادعى الغير ملكية دولة جولوف التي كانت عاصمتها في لكوارب، وملكية دولة الإمام سليمان بال الذي هو من اصل موريتاني، ومدفون عند جول الموريتانية الذي اقمتم به مشكورين مهرجانا السنة الماضية، وملكية دولة الحاج عمر تال المنحدر من بلادنا كما تنوسي عظماء السوننكيين من المجاهدين والعلماء العظماء كالمختار ساغو وغيرهم، وتوقف اهتمام الباحثين الغربيين والعرب وانصرفوا الى الدول المجاورة التي سارعت الى تبني ما تخلينا نحن عنه من تاريخنا..
وهكذا بدأت هويتنا تضيع يا فخامة الرئيس، بحيث لن يبقى منها إذا بقينا على هذه الحالة خلال عقود قليلة إلا "هويتي" هذه التي تنتجها الحالة المدنية اليوم..
الموضوع طويل وعريض يا فخامة الرئيس ولا أريد أن أطيل عليكم، كل ما أريده باختصار هو إعطاء الأولوية للثقافة فهي رافعة التعليم وحاضنة المدرسة الجمهورية، فلا يمكن أن ينجح التعليم دون الثقافة: إعطاء الأولوية للثقافة في الميزانية (يجب أن تضاعف ميزانيتها عشر مرات على الأقل) وفي إسناد أمرها إلى أهله، فهي آخر ما تبقى لنا لحماية حضارتنا قبل فوات الأوان، فالحضارات لا تحميها الجيوش وحدها يا فخامة الرئيس..
الحسين بن محنض