السبت
2025/10/25
آخر تحديث
السبت 25 أكتوبر 2025

الطريق إلى الاكتفاء الذاتي من الخضروات: أزمات محفّزة ورهانات مستمرة

منذ 39 دقيقة
الطريق إلى الاكتفاء الذاتي من الخضروات: أزمات محفّزة (…)
د. مولاي ولد أب ولد أكيك
طباعة

أظهرت أزمة كوفيد-19، وما رافقها من اضطرابات في سلاسل التوريد، إضافة إلى أزمة الكركرات (سنة 2020) التي عطلت حركة الواردات الغذائية نحو البلاد، هشاشة الأمن الغذائي في موريتانيا، خصوصًا في مجال الخضروات، حيث يعتمد البلد على الاستيراد لتغطية نسبة معتبرة من الاستهلاك المحلي.
في هذا السياق، برزت إلى الواجهة، وبإلحاحٍ غير مسبوق، إشكالية الاكتفاء الذاتي في إنتاج الخضروات بوصفها أولوية وطنية لا تحتمل التأجيل، الأمر الذي دفع السلطات العمومية إلى إعادة صياغة سياساتها الزراعية، بما يُعزّز الإنتاج المحلي ويُرسّخ مقومات السيادة الغذائية ضمن رؤية وطنية تسعى إلى تحقيق السيادة الغذائية وتخفيف التبعية للأسواق الخارجية.
المقومات والإمكانات الزراعية
تتوفر موريتانيا على منظومة طبيعية وبشرية تجعل من القطاع الزراعي أحد ركائز تنويع الاقتصاد الوطني، إذ تبلغ المساحة الصالحة للزراعة 513.000 هكتار، منها 153.000 هكتار قابلة للريّ الدائم بفضل ضفة نهر السنغال. وتمتلك البلاد موارد مائية سطحية وجوفية معتبرة، إضافة إلى تنوع مناخي يسمح بإنتاج محاصيل متعددة على مدار السنة في مناطق متفرقة من البلاد.
كما أن موقع موريتانيا الجغرافي يتيح لها الولوج إلى أسواق إقليمية ضمن فضاء الساحل وغرب إفريقيا، بما يمنح القطاع الزراعي بعدًا تصديريًا مستقبليًا إذا تم استغلال هذه الإمكانات وفق رؤية متكاملة.
الجهود الحكومية لتعزيز الاكتفاء الذاتي
سعيًا لتحقيق الهدف المنشود، اعتمدت الحكومة الموريتانية، منذ عام 2020، مقاربةً تنمويةً جديدةً للنهوض بالقطاع الزراعي، تقوم على زيادة المساحات المزروعة، وتحسين البنى التحتية الداعمة للإنتاج، وتعزيز دور ومساهمة القطاع الخاص في العملية الزراعية.
وقد تجسدت هذه الرؤية في برامج ومشاريع متعددة تهدف إلى رفع الإنتاجية الزراعية، وتحديث منظومات الري والتخزين والتسويق، وإرساء قواعد اقتصاد زراعي أكثر صمودًا وكفاءة.
ويأتي إشراف رئيس الجمهورية أول أمس على إطلاق الحملة الوطنية لزراعة الخضروات لموسم 2025–2026، كتجسيد عملي لهذا التوجه. هذه الحملة، تستهدف زراعة 12.000 هكتار بإنتاج متوقع يبلغ 240.000 طن من الخضروات. كما يشكل تهيئة رافد "سوكام" أحد أبرز المشاريع الهيكلية في هذا الاتجاه، إذ سيمتد على طول 34 كلم لري أكثر من 14.000 هكتار من الأراضي الزراعية، وهو ما سيعزز من كفاءة استخدام الموارد المائية في منطقة تُعدّ القلب النابض للإنتاج الزراعي الوطني.
وفي إطار الجهود المبذولة لتحقيق الاكتفاء الذاتي، قامت وزارة الزراعة والسيادة الغذائية خلال الفترة 2020-2025 بتوزيع 3.840 طنًا من بذور الخضروات (منها 3.800 طن من البطاطس و40 طنًا من بذور الخضروات الأخرى) إلى جانب 4.500 طن من الأسمدة المركبة و139.176 وحدة من معدات البستنة، وهو ما يمثل نقلة نوعية في دعم المزارعين وتعزيز الإنتاجية. كما تعكف الوزارة حاليا (حسب منشور لها) على تنفيذ مشاريع استصلاح وإعادة تأهيل، تشمل توسيع المزارع المروية القروية (535 هكتارًا)، واستصلاح مزرعة الركبة (1.575 هكتارًا)، إضافة إلى تنظيف وتسوية 25 كيلومترًا من المحاور المائية.
وفي صدد سياسة الدعم غير المباشر للإنتاج الوطني من الخضروات، تبنّت الحكومة إجراءات حمائية تمثّلت في فرض رسوم جمركية مؤقتة على واردات الخضروات خلال فترات الحصاد المحلي، وذلك لحماية المزارعين من المنافسة الخارجية، وتعزيز الثقة في جدوى الاستثمار الزراعي.
كما عملت الدولة، ضمن المقاربة الجديدة، على توجيه وتشجيع القطاع الخاص الوطني للمساهمة الفاعلة في جهود تحقيق الاكتفاء الذاتي في الخضروات، وهو ما أثمر عن ولوج أكثر من 30 شركة وطنية إلى المجال الزراعي، وضخ عشرات المليارات من الأوقية في مشاريع المكننة والريّ الحديث، الشيء الذي أسهم، بلا شك، في رفع كفاءة الإنتاج وتقليص الفجوة بين العرض والطلب المحلي.
التحديات البنيوية
رغم المؤشرات الإيجابية المسجلة خلال المواسم الأخيرة، فإن الطريق نحو الاكتفاء الذاتي من الخضروات لا يزال محفوفًا بعدد من التحديات الهيكلية التي تتطلب معالجة عميقة ومستدامة:
• الاعتماد على بذور مستوردة لا تتلاءم مع الخصائص المناخية المحلية، ما يؤدي إلى تدنّي المردودية وارتفاع التكاليف وتفاوت الجودة من موسم لآخر؛
• ضعف منظومة التمويل الزراعي وغياب آليات تمويل مستدامة لصغار المزارعين، مما يضعف توسع الاستثمار في الخضروات؛
• غياب التأمين الزراعي ضد المخاطر الأساسية، وهو ما يجعل المزارع الموريتاني أكثر عرضة للخسارة ويقلّل من استعداده للمخاطرة والاستثمار؛
• ضعف الحوكمة، مما يحد من كفاءة تنفيذ المشاريع الزراعية، ويؤثر سلبًا على توجيه الموارد والدعم نحو مستحقيه (المزارعين الفعليين)؛
• قصور البنى التحتية الزراعية، خصوصًا في مجالات التخزين، التبريد، والنقل، مما يفاقم مستوى الخسارة بعد الحصاد وإلى صعوبة تنظيم السوق المحلي للخضروات على نحو مستقر ومربح.
السياسات والإصلاحات المقترحة
إن تجاوز هذه التحديات يتطلب نهجًا إصلاحيًا يقوم على:
• تحسين البذور، والمتمثل في تطوير برامج للبذور المحلية المحسنة، وضمان استيراد بذور عالية الجودة؛
• توسيع التمويل الزراعي عبر إنشاء صناديق تمويلية، منح قروض ميسرة، وتطوير شراكات مع القطاع الخاص في هذا الصدد؛
• إقامة نظام التأمين الزراعي ضد المخاطر الأساسية لحماية المزارعين ولتعزيز الاستقرار المالي وتشجيع الاستثمار؛
• رفع الإنفاق العام على القطاع الزراعي، من خلال زيادة نسبته ضمن الميزانية العامة، وتوجيه مزيدٍ من الموارد نحو تحديث البنى التحتية وتعزيز المشاريع الهيكلية الكبرى؛
• تحسين إدارة الموارد والحوكمة، وذلك باعتماد نظم رقابية صارمة لضمان الشفافية ومساءلة الجهات التنفيذية.
هذا بالإضافة طبعا لاستدامة الجهود الحالية في كهربة مناطق الإنتاج وتطوير البنى التحتية: المتمثلة في دعم الري الحديث، التخزين المبرد، والنقل لتحسين الإنتاجية وتقليل الخسائر.
نحو استراتيجية إنتاج مستدامة
إن تحقيق السيادة الغذائية في موريتانيا، يتجاوز المعالجات الظرفية والموسمية نحو استراتيجية إنتاج مستدامة تجعل من قطاع الزراعة محركا للنموّ الاقتصادي ومجالًا للتشغيل وجذب الاستثمارات المحلية. فبناء منظومة زراعية فعّالة وقادرة على التكيّف مع المتغيرات المناخية والاقتصادية هو الطريق الأنجع لتحقيق الأمن الغذائي وترسيخ الاستقلال الاقتصادي، بما يعزز السيادة الوطنية ويكرّس مقومات التنمية المستدامة في البلاد.

د. مولاي ولد أب ولد أكيك