أحداث تجكجة تتكشف بالصوت والصورة بعد أكثر من 120 عامًا
تحتلّ إمارة آدرار موقعًا محوريًا في التاريخ السياسي والعسكري والاجتماعي لموريتانيا، غير أن التوثيق المرتبط بها ظلّ محدودًا ومتأثرًا – في معظمه – بالسرد الاستعماري الفرنسي الذي ركّز على الجوانب العسكرية والإدارية، وأغفل كثيرًا من العناصر المحلية: النظام الاجتماعي، شبكات التعليم التقليدي، الطرق الصوفية، وحركة المقاومة الشعبية.
ويبرز هذا القصور بوضوح في تناول واحدة من أهم لحظات تاريخ المقاومة: عملية اغتيال المندوب الفرنسي كبّولاني في تجكجة سنة 1905، وهي العملية التي قادها الشريف سيدي ولد مولاي الزين، وشكّلت تحولًا حاسمًا في مشروع التوسع الفرنسي.
لقد اعتدتُ – كما في بحوثي السابقة – على منهج خاص يقوم على الاجتهاد الشخصي والتحقق من المصادر المحدودة، ومنذ سنوات كنت تناولت هذا الحدث تدوينًا وتحليلًا، غير أن تعاقب الزمن وتوفر الأدوات البحثية الجديدة يفرض إعادة القراءة من منظور أرحب وأكثر عمقًا.
تهدف هذه الدراسة إلى مقارنة بين ما جرى قبل 120 سنة في تجكجة، وما شهدته غ zة خلال العامين الماضيين؛ إذ تتجلى أمامنا في الحالتين مقاربة واحدة: إرادة بشرية قليلة العدد في مواجهة قوة متفوقة عدّةً وعتادًا.
سؤال الدراسة المركزي
كيف استطاع الشريف سيدي ولد مولاي الزين تنفيذ عملية قتل كبولاني رغم الاختلال الهائل في القوة والعتاد بين المقاومة والجيش الفرنسي؟
أولًا: شخصية القائد
شيخ صوفي من الطريقة الغظفية()، متشبع بالزهد والصبر واليقين.
لا يمتلك سلطة سياسية أو قبلية، لكنه يملك رأس مال رمزيًا وروحيًا واسعًا في آدرار.
مؤمن بأن قتل كبولاني تكليف ديني مدعوم برؤيا، شكّلت خلفية روحية قوية للعملية.
إن هذه الخصائص تفسّر كيف أمكن لرجل واحد، بلا جيش ولا إمارة، أن يحشد رجالًا متفرّقين، ويجعل منهم قوة ذات مهمة محددة.
ثانيًا: الظروف السياسية والاجتماعية قبل العملية
دخل كبّولاني موريتانيا بصفة "مفوّض عام" لتثبيت السيطرة الفرنسية بعد نجاح حملات السنغال والساحل، واتخذ من قلعة تجكجة مركزًا لإدارة العمليات.
وكانت المنطقة حينها تعيش:
ضعف السلطة المركزية للإمارة وتشتت الولاءات.
تعدد مراكز القوة القبلية.
توترًا اجتماعيًا واسعًا بعد تدخل الفرنسيين في شؤون القبائل.
تصاعد المقاومة إثر استشهاد القائد بكار ولد اسويد أحمد في معركة بﯖادوم.
في هذا السياق برزت الحاجة لقيادات موثوقة، كان في مقدمتها:
الشريف سيدي ولد مولاي الزين
الأمير سيد أحمد ولد أحمد عيده
ثالثًا: إرهاصات التخطيط ودور الطريقة الغظفية
بدأ الشريف سيدي جولة واسعة في آدرار داعيًا إلى الجهاد، لكنه واجه:
ضعفًا شديدًا في السلاح (بنادق لكشام في مواجهة سلاح فرنسي حديث).
ترددًا قبليًا نابعًا من الخوف من الانتقام الفرنسي.
قناعة عامة بأن العملية مستحيلة.
وحين لم يجد تجاوبًا واسعًا، توجه إلى شيخه محمد محمود ولد الشيخ الغزواني في أوجفت، فبارك خطته، وأهداه السيف الذي “يُقتل به رأس الكفر” وفق الموروث المحلي.
وقد شكّل هذا الموقف دفعة روحية هائلة، وأكد مركزية التصوف في تشكيل الوعي المقاوم.
رابعًا: مسار الرحلة (أكثر من 320 كلم)
انطلقت المجموعة من امحيرث مرورًا بـ:
اتويليليلت – الطين – شاش – الكارة الزرقة – تيمكازين – بطحاء مريام – آغمورت
حتى وصلت إلى كيلمس (على بعد 20 كلم من تجكجة).
طريقة التعبئة كانت بسيطة وعميقة في آن واحد:
"يرسل الشريف ابن أخيه "شيغالي" بعبارة واحدة:
"من أراد الجهاد وقتل كبّولاني فلينضم إلينا"
بدأ بثلاثة رجال، ثم ارتفع العدد تدريجيًا إلى 20–25 رجلًا عند الوصول، مع إرجاع كل من لم يتصف بصفات الجهاد.
خامسًا: ليلة الهجوم
في كيلمس اجتمع الرجال، فأخذ عليهم الشريف عهدًا:
ألا يتحركوا إلا بعد سماع التكبير.
وأن اجتماعهم سيكون “كاجتماع يوم القيامة تحت ظلال العرش”.
وقدّم لهم أحد خدم المعسكر الفرنسي معلومات دقيقة عن مسالك القلعة، ومواقع الحرس.
سادسًا: اقتحام قلعة تجكجة – 12 مايو 1905
تم الهجوم بدقة نادرة، وانتهى بقتل كبّولاني، وهو الهدف المركزي للمجموعة القادمة من آدرار.
السردية الفرنسية:
صدمة وذهول من نجاح "بدو بلا تدريب".
تقليل شأن التخطيط المحلي.
ربط العملية بالمصادفة أو الحظ.
السردية المحلية:
إبراز العامل الروحي.
دور التصوف في تعبئة المجتمع.
المبادرة الشعبية التي تجاوزت البُنى القبلية التقليدية.
تأكيد فشل الفرنسيين في فهم المحظرة، كما قال كريستيان لغري في رسالة سرية:
"المحظرة أكبر عقبة أمام مشروع الاستعمار."
سابعًا: الدلالات العميقة للعملية
لم يكن مقتل كبولاني حدثًا عسكريًا فحسب، بل:
شهادة على قدرة المجتمع الموريتاني على إعادة تشكيل نفسه خارج الأطر التقليدية.
نموذجًا لقصور الرؤية الاستعمارية.
دليلًا على أن قوة اليقين قد تهزم قوة السلاح.
وقد استشهد المجاهدون، لكنها عملية بقي أثرها في الوعي الجمعي إلى اليوم.
بين تجكجة وغzة: تكرار التاريخ
بعد 120 سنة تتكرر المشاهد – بالصوت والصورة هذه المرة
مجموعة صغيرة من الشباب بأسلحة بسيطة، على دراجات نارية، تقتحم أقوى دولة في الشرق الأوسط، وتقتل وتأسر المئات،
ثم تصمد أمام الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا لمدة عامين كاملين،
قبل أن تفرض وقفًا للحرب برعاية دولية.
ويروى أن الشريف سيدي ولد مولاي الزين كان يدعو الله أن يستر جنوده عن أعين العدو، وربما ردد قوله تعالى:
ووَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ. سورة ياسين الآية: 9.
وهي الآية نفسها التي كان شباب غzة يرددونها في بطولاتهم الأسطورية التي أصبحت تدرس في الأكادميات العسكريةالعالمية بعد 120 عامًا.
ختاما: إن خط المقاومة واحد عبر التاريخ:
إيمانٌ راسخ، وروحٌ صافية، وإرادةٌ تتجاوز المستحيل.
وكما قال الشاعر:
قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم
وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ
الهامش:
الطريقة الغظفية هي طريقة صوفية سنية في موريتانيا، وهي مزيج بين القادرية والشاذلية، تأسست على يد الشيخ محمد الأغظف الداودي . تتميز بالطابع الجهادي والمقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، و تركز على التقشف والعمل اليدوي والزهد. تميزت بمقاومتها للاحتلال الفرنسي.
لمرابط ولد لخديم



